الفعل على الضمير المذكور إشعار بالحصر ، وأن ما عدا هذا الأمر الذي هو أساس الإيمان ورأسه ليس بمستأهل للإيقان به والقطع بوقوعه . وإنما عبر بالماضي مع أنه لم ينزل إذ ذاك إلا البعض لا الكل تغليبا للموجود على ما لم يوجد ، أو تنبيها على تحقق الوقوع كأنه بمنزلة النازل قبل نزوله . وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) أي يصدقونك بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين ، لا يفرقون بينهم ، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم ( وبالآخرة هم يوقنون ) إيمانا بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان : أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاء من ربك . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه .
والحق أن هذه الآية في المؤمنين كالتي قبلها ، وليس مجرد ذكر الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وما أنزل إلى من قبله بمقتض لجعل ذلك وصفا لمؤمني أهل الكتاب ، ولم يأت ما يوجب المخالفة لهذا ولا في النظم القرآني ما يقتضي ذلك . وقد ثبت الثناء على من جمع بين الأمرين من المؤمنين في غير آية . فمن ذلك قوله تعالى - يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل - وكقوله - وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم - وقوله - آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله - وقال - والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم - هذا كلام مستأنف استئنافا بيانيا ، كأنه قيل : كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل ( أولئك على هدى ) ويمكن أن يكون هذا خبرا عن الذين يؤمنون بالغيب الخ فيكون متصلا بما قبله .
قال في الكشاف : ومعنى الاستعلاء في قوله ( على هدى ) مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به ، شبهت حالهم بحال من اعتلى الشئ وركبه ، ونحوه : هو على الحق وعلى الباطل . وقد صرحوا بذلك في قوله :
جعل الغواية مركبا وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى انتهى . وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام ، واشتهر الخلاف في ذلك بين المحقق السعد والمحقق الشريف . واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين ، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها [ الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف ] فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ويجمع بين أطراف الكلام على التمام . قال ابن جرير : إن معنى ( أولئك على هدى من ربهم ) على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم ، و ( المفلحون ) أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله . هذا معنى كلامه . والفلاح أصله في اللغة : الشق والقطع ، قاله أبو عبيد : ويقال الذي شقت شفته أفلح ، ومنه سمى الأكار فلاحا لأنه شق الأرض بالحرث ، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه . قال القرطبي : وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضا في اللغة ، فمعنى ( أولئك هم المفلحون ) الفائزون بالجنة والباقون . وقال في الكشاف : المفلح الفائز بالبغية ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه انتهى . وقد استعمل الفلاح في السحور ، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود " حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " . قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور .
فكأن معنى الحديث : أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سمي فلاحا . وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أن كلا من