( فإن أمن بعضكم بعضا ) قال : هذه نسخت ما قبلها . وأقول : رضي الله عن هذا الصحابي الجليل ، ليس هذا من باب النسخ ، فهذا مقيد بالائتمان وما قبله ثابت محكم لم ينسخ وهو مع عدم الائتمان . وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله ( آثم قلبه ) قال : فاجر قلبه . وأخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين . وأخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن شهاب قال : آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين .
قوله ( لله ما في السماوات وما في الأرض ) قد تقدم تفسيره . قوله ( وإن تبدوا ما في أنفسكم ) إلى آخر الآية ، ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها ، فيغفر لمن يشاء منهم ما يغفره منها ، ويعذب من يشاء منهم بما أسر أو أظهر منها ، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية . وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال : الأول أنها وإن كانت عامة ، فهي مخصوصة بكتمان الشهادة ، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة أو لم يظهر . وقد روى هذا عن ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد ، وهو مردود بما في الآية من عموم اللفظ ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به . والقول الثاني أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك واليقين ، قاله مجاهد ، وهو أيضا تخصيص بلا مخصص . والقول الثالث أنها محكمة عامة ، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار والمنافقين . حكاه الطبري عن قوم ، وهو أيضا تخصيص بلا مخصص ، فإن قوله ( يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) لا يختص ببعض معين إلا بدليل . والقول الرابع أن هذه الآية منسوخة ، قاله ابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة ، وهو مروي عن ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين ، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها ، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها " . قوله ( يحاسبكم به الله ) قدم الجار والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به ، وقدم الإبداء على الإخفاء ، لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية ، وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه - قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله - فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية والبادية على السوية ، وقدم المغفرة على التعذيب لكون رحمته سبقت غضبه ، وجملة قوله ( فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) مستأنفة : أي فهو يغفر وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله ( يحاسبكم به الله ) وهذا على قراءة ابن عامر وعاصم . وأما على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي بجزم الراء والباء ، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها ، وهو جواب الشرط : أعني قوله ( يحاسبكم به الله ) . وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو العالية وعاصم الجحدري بنصب الراء والباء في قوله ( فيغفر - ويعذب ) على إضمار أن عطفا على المعنى . وقرأ طلحة بن مصرف يغفر بغير فاء على البدل ، وبه قرأ الجعفي وخلاد .
وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم ) الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جثوا على الركب ، فقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل الله عليك