قد اختلف أهل العلم في قوله ( لا إكراه في الدين ) على أقوال : الأول أنها منسوخة لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام ، والناسخ لها قوله تعالى - يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين - وقال تعالى - يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين - وقال - ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون - ، وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين . القول الثاني أنها ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية ، بل الذين يكرهون هم أهل الأوثان ، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وإلى هذا ذهب الشعبي والحسن وقتادة والضحاك . القول الثالث أن هذه الآية في الأنصار خاصة ، وسيأتي بيان ما ورد في ذلك . القول الرابع أن معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف إنه مكره فلا إكراه في الدين - القول الخامس أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام . وقال ابن كثير في تفسيره : أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بين وضح جلي دلائله وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا ، وهذا يصلح أن يكون قولا سادسا . وقال في الكشاف في تفسيره هذه الآية : أي لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والاختيار ، ونحوه قوله - ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين - أي لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكن لم يفعل ، وبنى الأمر على الاختيار ، وهذا يصلح أن يكون قولا سابعا . والذي ينبغي اعتماده ويتعين الوقوف عنده : أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمة غير منسوخة ، وهو أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت يهود بني نضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا فنزلت ، أخرجه أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في السنن والضياء في المختارة عن ابن عباس . وقد وردت هذه القصة من وجوه ، حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار قالوا إنما جعلناهم على دينهم : أي دين اليهود ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ، وأن الله جاء بالإسلام فلنكرهنهم ، فلما نزلت خير الأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكرههم على الإسلام . وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم وأدوا الجزية . وأما أهل الحرب فالآية وإن كانت تعمهم ، لأن النكرة في سياق النفي وتعريف الدين يفيدان ذلك ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لكن قد خص هذا العموم بما ورد من آيات في إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام . قوله ( قد تبين الرشد من الغي ) الرشد هنا الإيمان ، والغي الكفر : أي قد تميز أحدهما من الآخر . وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله . والطاغوت فعلوت من طغى يطغى ويطغو :
إذا جاوز الحد . قال سيبويه : هو اسم مذكر مفرد : أي اسم جنس يشمل القليل والكثير ، وقال أبو علي الفارسي :
إنه مصدر كرهبوت وجبروت يوصف به الواحد والجمع ، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه إلى موضع اللام كجبذ وجذب ، ثم تقلب الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها ، فقيل طاغوت ، واختار هذا القول النحاس ، وقيل أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق ، كما قيل لآلئ من اللؤلؤ . وقال المبرد : هو جمع . قال ابن عطية : وذلك مردود . قال الجوهري : والطاغوت : الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال . وقد يكون واحدا . قال الله تعالى - يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به - وقد