وأما الوجه الآخر ، فأن يكون معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، ثم حذف ذكر بين وإلى ، إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في ما الثانية دلالة عليهما ، كما قالت العرب : مطرنا ما زبالة فالثعلبية ، وله عشرون ما ناقة فجملا ، وهي أحسن الناس ما قرنا فقدما ، يعنون : ما بين قرنها إلى قدمها ، وكذلك يقولون في كل ما حسن فيه من الكلام دخول ما بين كذا إلى كذا ، ينصبون الأول والثاني ليدل النصب فيهما على المحذوف من الكلام . فكذلك ذلك في قوله : ما بعوضة فما فوقها .
وقد زعم بعض أهل العربية أن ما التي مع المثل صلة في الكلام بمعنى التطول ، وأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا فما فوقها . فعلى هذا التأويل يجب أن تكون بعوضة منصوبة ب يضرب ، وأن تكون ما الثانية التي في فما فوقها معطوفة على البعوضة لا على ما .
وأما تأويل قوله : فما فوقها : فما هو أعظم منها عندي لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج أن البعوضة أضعف خلق الله ، فإذا كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف ، وإذ كانت كذلك فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه ، فقد يجب أن يكون المعنى على ما قالاه فما فوقها في العظم والكبر ، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة .
وقيل في تأويل قوله : فما فوقها في الصغر والقلة ، كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشح ، فيقول السامع : نعم ، وفوق ذاك ، يعني فوق الذي وصف في الشح واللؤم . وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين ترتضي معرفتهم بتأويل القرآن ، فقد تبين إذا بما وصفنا أن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة . فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة فغير جائز في ما إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بمعنى التطول .
القول في تأويل قوله تعالى : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا .
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ذكره : فأما الذين آمنوا فأما الذين صدقوا الله ورسوله . وقوله : فيعلمون أنه الحق من ربهم يعني فيعرفون أن المثل الذي ضربه الله لما ضربه له مثل . كما .