السبب في ذلك ؛ لأن الدنيا كلها دار سفر ، والعبد من حين ولد ، فهو مسافر إلى ربه ، فهذه النار ، جعلها الله متاعا للمسافرين في هذه الدار ، وتذكرة لهم بدار القرار . فلما بين من نعمه ما يوجب الثناء عليه من عباده ، وشكره ، وعبادته ، أمر بتسبيحه وتعظيمه ، فقال : * ( فسبح باسم ربك العظيم ) * ، أي : نزه ربك العظيم ، كامل الأسماء والصفات ، كثير الإحسان والخيرات . واحمده بقلبك ، ولسانك ، وجوارحك ، لأنه أهل لذلك ، وهو المستحق لأن يشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى ، ويطاع فلا يعصى . * ( فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين * أفبه ذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون * فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ول كن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونهآ إن كنتم صادقين ) * أقسم تعالى بالنجوم ومواقعها ، أي : مساقطها في مغاربها ، وما يحدث الله في تلك الأوقات ، من الحوادث الدالة على عظمته وكبريائه وتوحيده . ثم عظم هذا المقسم به ، فقال : * ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) * . وإنما كان القسم عظيما ، لأن في النجوم وجريانها ، وسقوطها عند مغاربها ، آيات وعبرا ، لا يمكن حصرها . وأما المقسم عليه ، فهو إثبات القرآن ، وأنه حق لا ريب فيه ، ولا شك يعتريه . وأنه كريم ، أي : كثير الخير ، غزير العلم ، وكل خير وعلم ، فإنما يستفاد من كتاب الله ويستنبط منه . * ( في كتاب مكنون ) * ، أي : مستور عن أعين الخلق ، وهذا الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ ، أي : إن هذا القرآن ، مكتوب في اللوح المحفوظ ، ومعظم عند الله ، وعند ملائكته في الملأ الأعلى . ويحتمل أن المراد بالكتاب المكنون هو الكتاب الذي بأيدي الملائكة الذين ينزلهم الله لوحيه ورسالته ، وأن المراد بذلك أنه مستور عن الشياطين ، لا قدرة لهم على تغييره ، ولا الزيادة والنقص منه واستراقه . * ( لا يمسه إلا المطهرون ) * ، أي : لا يمس القرآن إلا الملائكة الكرام ، الذين طهرهم الله تعالى من الآفات ، والذنوب ، والعيوب . وإذا كان لا يمسه إلا المطهرون ، وأن أهل الخبث والشياطين ، لا استطاعة لهم ، ولا يدان إلى مسه ، دلت الآية تنبيها على أنه لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر . * ( تنزيل من رب العالمين ) * ، أي : إن هذا القرآن الموصوف بتلك الصفات الجليلة ، هو تنزيل رب العالمين ، الذي يربي عباده ، بنعمه الدينية والدنيوية . وأجل تربية ربى بها عباده ، إنزاله هذا القرآن ، الذي قد اشتمل على مصالح الدارين ، ورحم الله به العباد رحمة ، لا يقدرون لها شكورا . ومما يجب عليهم أن يقوموا به ويعلنوه ، ويدعوا إليه ويصدعوا به ، ولهذا قال : * ( أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ) * أي : أفبهذا الكتاب العظيم والذكر الحكيم * ( أنتم مدهنون ) * ، أي : تختفون ، وتدلون خوفا من الخلق وعارهم وألسنتهم ؟ هذا لا ينبغي ولا يليق ، إنما يليق أن يداهن بالحديث الذي لا يثق صاحبه منه . وأما القرآن الكريم فهو الحق الذي لا يغالب به مغالب ، إلا غلب ، ولا يصول به صائل إلا كان العالي على غيره ، وهو الذي لا يداهن به ويختفى ، بل يصدع به ويعلن . وقوله : * ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) * ، أي : تجعلون مقابلة منة الله عليكم بالرزق بالتكذيب والكفر لنعمة الله ، فتقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، وتضيفون النعمة لغير مسديها وموليها . فهلا شكرتم الله على إحسانه ، إذ أنزله إليكم ، ليزيدكم من فضله ، فإن التكذيب والكفر ، داع لرفع النعم ، وحلول النقم . * ( فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ) * ، أي : فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم ، وأنتم تنظرون المحتضر في هذه الحالة . والحال أنا نحن أقرب إليه منكم ، بعلمنا وملائكتنا ، ولكن لا تبصرون . * ( فلولا إن كنتم غير مدينين ) * ، أي : فهلا إذ كنتم تزعمون ، أنكم غير مبعوثين ولا محاسبين ومجزيين * ( ترجعونها ) * ، أي : إلى بدنها * ( إن كنتم صادقين ) * وأنتم تقرون أنكم عاجزون عن ردها إلى موضعها . فحينئذ إما أن تقروا بالحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وإما أن تعاندوا فتعلم حالكم وسوء مآلكم . * ( فأمآ إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنات نعيم * وأمآ إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين * وأمآ إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن ه ذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم ) * ذكر الله تعالى أحوال الطوائف الثلاث : المقربين ، وأصحاب اليمين ، والمكذبين الضالين في أول السورة في دار القرار . ثم ذكر أحوالهم في آخرها ، عند الاحتضار والموت ، فقال : * ( فأما إن كان من المقربين ) * ، أي : إن كان الميت من المقربين إلى الله ، المتقربين إليه بأداء الواجبات والمستحبات ، وترك