والثاني يدلّ عليه ما قلناه ; لأنّ مَن قد أنس بالكلام والخطابة ، وشدا طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب ، لا بُدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء ، أو لاثنين منهم فقط ، فلا بُدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين . ألا ترى أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام ، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام ونفَسه وطريقته ومذهبه في القريض . . . وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً ، ونفَساً واحداً ، وأُسلوباً واحداً ، كالجسم البسيط الّذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية ، وكالقرآن العزيز ، أوّله كأوسطه ، وأوسطه كآخره . . . فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) " ( 1 ) . كما يروي ابن أبي الحديد عن شيخه أبي الخير الواسطي ، فيقول : " أمّا أبو الخير سأل يوماً أُستاذه ابن الخشّاب بعد انتهائهما من قراءة خطبة عليّ المعروفة بالشقشقية : أتقول أنّها منحولة ؟ ! فقال له : لا والله ! وإنّي لأعلم أنّها كلامه كما أعلم أنّك مصدّق . قال : فقلت له : إنّ كثيراً من الناس يقولون إنّها من كلام الرضي رحمه الله تعالى .
1 - شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 10 / 127 - 129 .