قال : الست قلت هذا قد ضرب خمسين سوطاً ؟ فقال : أما والله لو ضرب ألف سوط ما كان أثرها بأشد من هذا ، وإنما قلت هذا حتى يقوى بنفسه فيعنني على علاجه ، ثم إن الفضل اقترض من بعض أصحابه عشرة آلاف درهم وسيرها إليه ، فردها عليه ، فاعتقد أنه استقلها ، فاقترض عليها عشرة آلاف أخرى وسيرها إليه ، فأبى أن يقبلها ، وقال : ما كنت لآخذ على معالجة فتى من الكرام كراء ، والله لو كانت عشرين ألف ديناراً ما قبلتها ، فلما بلغ الفضل ذلك قال : و الله إن الذي فعله هذا بلغ من الذي فعلناه في جميع أيامنا من المكارم ، وكان قد بلغه أن ذلك المعالج في شدة وفاقة ، وكان الفضل ينشد وهو في السجن هذه الأبيات ، قيل كأنها لأبي العتاهية : إلى الله في ما نالنا نرفع الشكوى * ففي يده كشف المضرة والبلوى خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا : السجان يوماً لحاجة * عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا وكان الفضل كثير البر بأبيه ، وكان أبوه يتأذى من استعمال الماء البارد في زمن الشتاء ، فيحكى أنه لما كان في السجن لم يقدر على تسخين الماء ، وكان يأخذ إبريق النحاس وفيه الماء فيلصقه إلى بطنه زماناً عساه ينكر برودته بحرارة بطنه أو قال باطنه حتى يستعمله أبوه ، وأخباره كثيرة وغرائبه غزيرة . وكانت ولادته لسبع بقين من ذي الحجة سنة تسع وأربعين ومائة ، وتوفي في السجن في السنة المذكورة ، وقيل بل في سنة ثلاث وتسعين ومائة في المحرم ، ولما بلغ الرشيد موته قال : أمري قريب من أمره ، وكذا كان فإنه توفي في سنة ثلاث وتسعين ومائة . وفي السنة المذكورة وقيل قبلها وقيل بعدها توفي العباس بن الأحنف اليمامي الشاعر المشهور ، ومن شعره : إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعة * فلا خير في ود يكون بشافع فأقسم ما تزكي عتابك عن قلبي * ولكن لعلمي أنه غير نافع وإني إذا لم ألزم الصبر طائعاً * فلا بد منه مكرهاً غير طائع حكى عمر بن شبة قال : ثم مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم ، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف ، فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم ، فخرج فصفوا بين يديه فقال : من هذا ؟ قالوا : إبراهيم الموصلي فقال : أخروه وقدموا العباس بن الأحنف ، فقدم فصلى عليه ، فلما فرغ وانصرف ، نا منه هاشم بن عبد الله الخزاعي فقال : يا سيدي كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقدمة