وقد طبَّق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) موقفه في تعامله مع نظام أبي بكر وعمر وعثمان ، ولم يخضع لضغوط الترغيب والترهيب الكثيرة . وعمل في نفس الوقت لتكون له مع الحاكم علاقة شخصية هادئة ، ليطمئن بأنه لن يخرج عليه ، ويقبل منه النصح ، ولا تأخذه العزة بالإثم . وقد فرح أبو بكر وعمر بهذا الموقف ، رغم بعض عناصره ، فلا مانع عندهما أن لا يعترف بشرعية نظامهما ، ولا يصلي خلف الحاكم ، ويجلس في زاويته في المسجد ويبين الشريعة ، ما دام يسكت عنهم . بل قالوا له : « إن بايعت كففنا عنك ، وأكرمناك ، وقربناك وفضلناك . وإن لم تفعل قتلناك » . ( كتاب سليم / 216 ) . وروى المؤرخون أن أبا بكر وعمر لما رأيا اهتمام علي ( عليه السلام ) وآراءه الصائبة ونصحه لهم في تدبير حرب المرتدين والفتوحات ، طمعا بأن يقبل منهما قيادة جيش بمرسوم خلافي ، لكنه لم يكن يقبل ، وكان يقترح عليهم قائداً كفوءاً ، وربما أخذا برأيه فيه ، وربما لم يأخذا ! لهذا لا يصح القول إن علياً ( عليه السلام ) اعتزل الشؤون العامة بنحو مطلق ، لأنه كان يحضر يومياً لزيارة قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويصلي عنده ، ويجلس لمراجعات الناس وبيان الشريعة . فهذا واجب عليه بموجب أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) نصبه حجة للأمة . نعم يصح القول إنه اعتزل ( عليه السلام ) نسبياً ، وكان أوج اعتزاله في الشهرين الأولين حتى تفاقمت حركة طليحة الأسدي المتنبئ ، واستجابت له قبائل كثيرة ، وبلغ عدد قواته في حائل وسميراء وبزاخة عشرين ألفاً وأكثر . ثم اتخذ معسكراً في ذي القَصَّة قرب المدينة ، وكان أنصاره فيه نحو عشرة آلاف مقاتل ، وأرسل إليهم حِبَال بن أخيه سلمة بن خويلد الأسدي ، قائداً ، وكان فارساً مشهوراً .