ثم حجز بينهما الليل ورجع الفريقان إلى عسكريهما ، وبات المسلمون لهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق ويبكون حول مصاحفهم ، وبات المشركون في معازفهم وخمورهم . ثم غدا النعمان بن مقرن يوم الجمعة ، وكان رجلاً قصيراً أبيض على برذون أبيض ، قد أعلم بالبياض ، فجعل يأتي راية راية يحرضهم على القتال ، ويقول : الله الله في الإسلام أن تخذلوه ، فإنكم باب بين المسلمين وبين المشركين ، فإن كسر هذا الباب دخلوا على المسلمين . يا أيها الناس إني هازٌّ لكم الراية مرة ، فليتعاهد الرجل الخيل في حزمها وأعنتها ، ألا وإني هازٌّ لكم الثانية فلينظر كل رجل منكم إلى موقف فرسه ومضرب رمحه ووجه مقاتله ، ألا وإني هازٌّ لكم الثالثة ومكبرٌ ، فكبروا الله واذكروه ، ومستنصرٌ فاستنصروه ، ألا فحامل فاحملوا . . . فمكث المسلمون ينظرون إلى الراية ويراعونها حتى إذا زالت الشمس عن كبد السماء ، هز النعمان الراية هزةً فانتزعوا المخالي عن الخيول وقرطوها الأعنة ، وأخذوا أسيافهم بأيمانهم والأترسة بشمائلهم ، وصلى كل رجل منهم ركعتين ، يبادر بهما ، ثم هز النعمان الراية ثانياً فوضع كل رجل منهم رمحه بين أذني فرسه ، ولزمت الرجال منهم نحور الخيل ، وجعل كل رجل يقول لصاحبه : أي فلان تنحَّ عنى لا أطؤك بفرسي ، إني أرى وجه مقاتلي ، إني غير راجع إن شاء الله حتى أقتل أو يفتح الله عليَّ ! ثم هز الثالثة فكبر فجعل الناس يكبرون الأول فالأول ، الأدنى فالأدنى ، وقذف الله الرعب في قلوب المشركين حتى أن أرجلهم كانت تخفق في الركب ،