فصار خالد إلى اليرموك ، واجتمع به جموع المسلمين ، ونزل الروم بالواقوصة على ضفّة اليرموك - وهو واد - وصار الوادي خندقَاً بينهم ، وهو لِهْبٌ لا يدرك ، وزحفت الروم في يوم في ضباب ، وفيهم ثمانون ألف مقيد ، وأربعون ألفاً في السلاسل ، عشرة في سلسلة ، وأربعون ألفاً مربوطون بالعمائم ، وأقبلوا لهم دويّ كدويّ الرعد ، فأزالوا المسلمين على الميمنة إلى ناحية القلب ، وكان خالد رضي الله عنه في نحو ألف فارس ، وقيل في نحو ستة آلاف ، فلما رأى انكسار المسلمين واضطراب فرسان العرب ، وكان إلى جنبه أكثر من مائة ألف من الروم ، فاعترضهم وحمل عليهم ، فما بلغتهم الحملة حتى فضَّ الله جمعهم واتبعهم من يليهم ، فانكشفوا بين أيديهم كما تولي الغنم بين يدي الأسد . وحمل عليهم المسلمون من كل ناحية ، فمنحهم الله تعالى أكتافهم فقتلوهم كيف شاءوا لا يمتنعون من أحد ، وركب الروم بعضهم بعضاً في الضباب إلى مكان شرف على أهوية تحتهم ، فأخذوا يتساقطون فيها لا يعلم آخرهم ما لقي أولهم من أجل الضباب ، فكان من صبر للقتال من المقرنين يهوي به من خشعت نفسه ، فيهوي الواحد بالعشرة فلا يطيقونه ، فسقط فيها خلق كثير ، فبعث أبو عبيدة رضي الله عنه من الغد شداد بن أوس بن ثابت ابن أخي حسَان يعدهم فلم يقدر ، فقطعت القصب من الوادي وجعل على كل ألف قتيل قصبة ، فإذا القتلى مائة ألف وعشرون ألفاً ، فسميت تلك الأهوية حينئذ الواقوصة لأنهم وقصوا فيها ، وما فطنوا بتساقطهم حتى انكشف الضباب ، فأخذوا في وجه آخر ، وقتل المسلمون منهم في المعركة مائة ألف وخمسة آلاف فيهم صناديدهم وفيهم أخو هرقل والتدارق والصقلار خصي هرقل ، وذلك يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة خمس عشرة . وفر ماهان في من بقي من الروم إلى دمشق ، فاتبعه خالد رضي الله عنه في جيشه فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وترجل ماهان فقتله النعمان بن علقمة الأزدي ، وقيل بل عاصم بن حوال اليربوعي ، فقومت عدته التي خرج بها للحرب بستين ألفاً لأنها كانت مرصعة بالدر والياقوت . ولم يزل خالد رضي الله عنه يتبعهم فيقتلهم في كل واد وكل شعب وكل جبل . وكتب عمر بن الخطّاب إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما أن يقسم الغنائم على المسلمين ، فقسمها بدمشق ، فأصاب الفارس أربعة وعشرون ألف مثقال من الذهب الأحمر ومثلها من الفضة ، وأصاب الراجل ثمانية آلاف من كل نوع ، وأعطى الفَرَس الهجين سهماً والفَرَس العربي سهمين ، وألحق البراذين بالعربيات ، وكانت أيام اليرموك من أشد أيام القتال ، وأشدها يوم التغوير ، وهو اليوم الذي أمر فيه ماهان مائة ألف رام من الأرمن أن يرموا فيه كلهم عن قوس واحدة ، فرموا فغارت من المسلمين سبعمائة عين ، منهم عين أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه . وفي طريق آخر أنه لمّا تصافوا للقتال برز من صفّ العدو رجل منهم عظم الشأن عندهم ، فقال أبو عبيدة رضي الله عنه : مَن يبرز إليه ؟ فبرز إليه قيس بن هبيرة بن المكشوح ، فطعنه فأرداه عن فرسه ، فنادى أبو عبيدة رضي الله عنه في الناس : والله مما بعدها إلا النصر فاحملوا ، فحمل المسلمون فكانت الدبرة على الروم ، فقتل منهم سبعون ألفاً لأنهم كانوا تقيّدوا للثبوت فلم ينج منهم إلا الأقل من الثلث ، ولم يقتل في وقيعة من أهل الدهر إلى وقتنا هذا أكثر من قتلى اليرموك ، وقال قيس بن المكشوح : جلبنا الخيل من صنعاء * بكل مدجج كالليث حامي إلى وادي القرى فديار كلب * إلى اليرموك بالبلد الشآمي واليرموك نهر بذلك الموضع وبه سمي . وفي التفسير أن لقمان لما وعظ ابنه بقوله عزّ وجلّ " يَا بُنيَّ إِنَّها إلا تَك مِثقَالَ حبةٍ مِن خَرْدَلٍ " الآية " لقمان : 16 " أخذ حبّة من خردل فأتى بها إلى اليرموك وألقاها في عرضه ، ثم مكث ما شاء الله تعالى ، ثم ذكرها فبسط يده ، فأقبل ذباب فألقاها في ناحيته . ومن امداح حسان بن ثابت لآل جفنة في الجاهلية قوله : لمن الدار أقفرت بمعانِ * بين أصل اليرموك فالخمان ذاك مغنى لآل جفنة في الده * ر محلاً لحادث الأزمان