ارتحال جرير من المدينة إلى مكة ليسمع غناء ابن سريج في سفره أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني إسحاق بن يحيى بن طلحة قال : قدم جرير بن الخطفى المدينة ونحن يومئذ شباب نطلب الشّعر ، فاحتشدنا له ومعنا أشعب . فبينا نحن عنده إذ قام لحاجة وأقمنا لم نبرح . وجاء الأحوص بن محمد الشاعر من قباء على حمار فقال : أين هذا ؟ فقلنا : قام لحاجة ، فما حاجتك إليه ؟ قال : أريد واللَّه أنّ أعلمه أنّ الفرزدق أشعر منه وأشرف . قلنا : ويحك ! لا تعرض له وانصرف ، فانصرف وخرج . فجاء جرير فلم يكن بأسرع من أن أقبل الأحوص الشاعر فأقبل عليه ، فقال : السّلام عليك يا جرير . قال جرير : وعليك السّلام . فقال الأحوص : يا بن الخطفى ، الفرزدق أشرف منك وأشعر . قال جرير : من هذا أخزاه اللَّه ! قلنا : الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح . فقال : نعم ! هذا الخبيث ابن الطيب ، أأنت القائل : < شعر > يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها وأحسن شيء ما به العين قرّت < / شعر > / قال نعم . قال : فإنه يقرّ بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر ، أفيقرّ ذلك بعينك ؟ ! قال : وكان الأحوص يرمى بالحلاق [1] فانصرف ، فبعث إليهم بتمر وفاكهة . وأقبلنا على جرير نسائله ، وأشعب عند الباب وجرير في مؤخّر البيت ، فألحّ عليه أشعب / يسأل . فقال : واللَّه إنّي لأراك أقبحهم [2] وجها وأراك ألأمهم حسبا ؛ فقد أبرمتني [3] منذ اليوم . قال : إنّي واللَّه أنفعهم وخيرهم لك . فانتبه جرير وقال : ويحك ! كيف ذاك ؟ قال : إني أملَّح شعرك وأجيد مقاطعه ومبادئه . فقال : قل ، ويحك ! فاندفع أشعب فنادى بلحن ابن سريج : < شعر > يا أخت [4] ناجية السّلام عليكم قبل الرّحيل وقبل عدل [5] العذّل لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم يوم الرّحيل [6] فعلت ما لم أفعل < / شعر > فطرب جرير وجعل يزحف نحوه حتى ألصق بركبته ركبته ، وقال : لعمري لقد صدقت ، إنك لأنفعهم لي وقد حسّنته وأجدته وزيّنته ، أحسنت واللَّه ، ثم وصله وكساه . فلمّا رأينا إعجاب جرير بذلك الصوت ، قال له بعض أهل المجلس : فكيف لو سمعت واضع هذا الغناء ؟ قال : أو إن له لواضعا غير هذا ؟ فقلنا نعم . قال : فأين هو ؟ قلنا : بمكَّة قال : فلست بمفارق حجازكم حتى أبلغه . فمضى ومضى معه جماعة ممن يرغب في طلب الشعر في صحابته وكنت فيهم ، فأتيناه جميعا ، فإذا هو في فتية من قريش كأنّهم المها مع ظرف كثير ، فأدنوا ورحّبوا وسألوا عن الحاجة ، فأخبرناهم الخبر ، فرحّبوا بجرير وأدنوه وسرّوا بمكانه ، وأعظم عبيد بن سريج موضع جرير وقال : سل ما تريد جعلت فداءك ! قال : أريد أن تغنّيني لحنا سمعته بالمدينة أزعجني إليك . قال : وما هو ؟ قال :
[1] الحلاق : صفه تنافي الرجولة ، وقد أشار إليه ابن سيده بقوله : الحلاق بضم الحاء وفتح اللام : صفة سوء ، كأن متاع الإنسان يفسد فتعود حرارته إلى هنا لك . ( انظر « اللسان » مادّة حلق ) . [2] في أ ، م ، ب ، س : « اوقحهم » . [3] أبرمتني : أضجرتني . [4] في « ديوان » جرير المطبوع بالمطبعة العلمية بمصر سنة 1313 : « يا أم ناجية » . [5] في ت ، ح ، ر : « لوم العذل » . [6] كذا في « ديوانه » وأكثر النسخ . وفي ح ، ر : « الوداع » .