/ ثم قال عمر لابن سريج : يا أبا يحيى ، إني تفكَّرت في رجوعنا مع العشيّة إلى مكة مع كثرة الزّحام والغبار وجلبة الحاجّ فثقل عليّ ، فهل لك أن نروح رواحا طيّبا معتزلا ، فنرى فيه من راح صادرا إلى المدينة من أهلها ، ونرى أهل العراق وأهل الشّأم ونتعلَّل [1] في عشيّتنا وليلتنا ونستريح ؟ قال : وأنّى ذلك يا أبا الخطَّاب ؟ قال : على كثيب أبي شحوة [2] المشرف على بطن يأجج [3] بين منى وسرف ، فنبصر مرور الحاجّ بنا ونراهم ولا يرونا . قال ابن سريج : طيّب واللَّه يا سيّدي . فدعا بعض خدمه فقال : اذهبوا إلى الدار بمكَّة ، فاعملوا لنا سفرة [4] واحملوها مع شراب إلى الكثيب ، حتّى إذا أبردنا [5] ورمينا الجمرة [6] صرنا إليكم - قال : والكثيب على خمسة أميال من مكَّة مشرف على طريق المدينة وطريق الشّأم وطريق العراق ، وهو كثيب شامخ / مستدق [7] أعلاه منفرد عن الكثبان - فصارا إليه فأكلا وشربا . فلمّا انتشيا أخذ ابن سريج الدّفّ [8] فنقره وجعل يغنّي وهم ينظرون إلى الحاجّ . فلمّا أمسيا رفع ابن سريج صوته يغنّي في الشّعر الذي قاله عمر ، فسمعه الرّكبان فجعلوا يصيحون به : يا صاحب الصّوت أما تتّقي اللَّه ! قد حبست الناس عن مناسكهم ! فيسكت قليلا ، حتى إذا مضوا رفع صوته وقد أخذ فيه الشّراب فيقف آخرون ، إلى أن مرّت [9] قطعة من الليل ، فوقف عليه في الليل رجل على فرس عتيق [10] عربيّ مرح مستنّ [11] فهو كأنه ثمل ، حتى وقف بأصل الكثيب وثنى رجله على قربوس [12] سرجه ، ثم نادى : يا صاحب الصوت ، أيسهل عليك أن تردّ شيئا مما سمعته ؟ قال : نعم ونعمة عين ، فأيّها تريد ؟ قال : تعيد عليّ : < شعر > ألا يا غراب البين مالك كلمّا نعبت [13] بفقدان عليّ تحوم أبالبين من عفراء أنت مخبّري عدمتك من طير فأنت مشوم < / شعر > - قال : والغناء لابن سريج - فأعاده ، ثم قال له ابن سريج : ازدد إن شئت . فقال : غنّني :
[1] نتعلل : نتلهى ونتسلى . [2] في ت : « أبي شجوة » . وفي أ ، ء ، ب ، س : « أبي سجرة » . وفي سائر المنسخ : « أبي شجرة » وكل ذلك محرّف عن « أبي شحوة » بالشين المعجمة المفتوحة والحاء المهملة الساكنة ثم واو مفتوحة ، ذكره ياقوت وعرّفه كما في الأصل . [3] يأجج كيسمع وينصر ويضرب : موضع من مكة على ثمانية أميال ، وكان من منازل عبد اللَّه بن الزبير . ( انظر « شرح القاموس » مادة يأجج ) . [4] السفرة بالضم : طعام يتخذ للمسافر ( كاللَّهنة للطعام الذي يؤكل بكرة ) وأكثر ما يحمل في جلد مستدير ، فنقل اسم الطعام إليه وسمي به كما سميت المزادة راوية ، وفي حديث عائشة : « صنعنا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم ولأبي بكر سفرة في جراب ( أي طعاما ) لما هاجر هو وأبو بكر رضي اللَّه عنه » . وفي ح ، ر : « سفرا » بصيغة الجمع . [5] أبردنا : دخلنا في آخر النهار . [6] الجمرة : واحدة جمرات المناسك وهي ثلاث جمرات ترمى بها الجمار ، بين كل واحدة الأخرى غلوة ( رمية ) سهم . وسمي موضع رمي الجمار بمنى جمرة لأنه يرمى بالجمار ( جمع جمرة وهي الحصاة ) أو أنه سمي جمرة لأنه مجمع الحصى التي ترمى بها ، من الجمرة وهي اجتماع القبيلة على من ناوأها . [7] كذا في ح ، ر . وفي سائر النسخ : « وهو كثيب شامخ مشيد وأعلاه مفرد عن الكثبان » . [8] الدف بالضم ويفتح ، قال في « القاموس » : وبالضم أعلى ، وحكى الجوهريّ أن الفتح فيه لغة . [9] في ب ، س : « سرت » . [10] العتيق من الخيل : الرائع الكريم الأصل . [11] فرس مستنّ : نشيط . [12] القربوس ( بفتح الراء ولا يسكن إلا في ضرورة الشعر . وحكى أبو زيد أن السكون فيه لغة ) : مقدّم السرج ومؤخرة ( ويقال لهما حنوا السرج ) كل منهما قربوس . [13] كذا في ب ، س ، وفي ح : « نعبت » بالياء المثناة . وفي سائر النسخ : « علوت » .