أن التشخص بالوجود [1] ، فعلمنا بذاتنا إنما هو بحضورها لنا بوجودها الخارجي الذي هو عين وجودنا الشخصي المترتب عليه الآثار . وأيضا لو كان الحاضر لذواتنا عند علمنا بها هو ماهية ذواتنا دون وجودها والحال أن لوجودنا ماهية قائمة به ، كان لوجود واحد ماهيتان موجودتان به ، وهو اجتماع المثلين ، وهو محال . فإذن علمنا بذواتنا بحضورها لنا وعدم غيبتها عنا بوجودها الخارجي لا بماهيتها فقط . وهذا قسم آخر من العلم ، ويسمى : ( العلم الحضوري ) . وانقسام العلم إلى القسمين قسمة حاصرة ، فحضور المعلوم للعالم إما بماهيته وهو العلم الحصولي ، أو بوجوده وهو العلم الحضوري . هذا ما يؤدي إليه النظر البدوي من انقسام العلم إلى الحصولي والحضوري ، والذي يهدي إليه النظر العميق أن الحصولي منه أيضا ينتهي إلى علم حضوري . بيان ذلك : أن الصورة العلمية - كيفما فرضت - مجردة من المادة عارية من القوة ، وذلك [2] لوضوح أنها - بما أنها معلومة - فعلية لا قوة فيها لشئ البتة ، فلو فرض أي تغير فيها كانت الصورة الجديدة مباينة للصورة المعلومة سابقا ، ولو كانت الصورة العلمية مادية لم تأب التغير . وأيضا لو كانت مادية لم تفقد خواص المادة اللازمة وهي الانقسام والزمان والمكان . فالعلم - بما أنه علم - لا يقبل النصف والثلث مثلا ، ولو كان منطبعا في مادة جسمانية لا نقسم بانقسامها . ولا يتقيد بزمان ولو كان ماديا ، وكل مادي متحرك لتغير بتغير الزمان . ولا يشار إليه في مكان ولو كان ماديا حل في مكان .
[1] راجع الفصل الثالث من المرحلة الخامسة . [2] أي تجرد الصورة العلمية من المادة . والمصنف اكتفى لإثباته بذكر الدليلين المذكورين . وقد عقد الفخر الرازي وصدر المتألهين فصلا لذكر الأدلة المشهورة التي أقاموا على تجرد النفس ، وهي اثنا عشر دليلا ، راجع المباحث المشرقية ج 2 ص 345 - 379 ، والأسفار ج 8 ص 260 - 303 .