وأما حديث الاختيار ، فقد زعم قوم [1] أن الفاعل المختار كالإنسان - مثلا - بالنسبة إلى أفعاله الاختيارية علة تستوي نسبتها إلى الفعل والترك ، فله أن يرجح ما شاء منهما من غير إيجاب ، لتساوي النسبة . وهو خطأ ، فليس الإنسان الفاعل باختياره علة تامة للفعل ، بل هو علة ناقصة ، وله علل ناقصة أخرى ، كالمادة وحضورها واتحاد زمان حضورها مع زمان الفعل واستقامة الجوارح الفعالة ومطاوعتها والداعي إلى الفعل والإرادة وأمور أخرى كثيرة إذا اجتمعت صارت علة تامة يجب معها الفعل . وأما الإنسان نفسه فجزء من أجزاء العلة التامة ، نسبة الفعل إليه بالإمكان دون الوجوب ، والكلام في إيجاب العلة التامة لا مطلق العلة . على أن تجويز استواء نسبة الفاعل المختار إلى الفعل وعدمه إنكار لرابطة العلية ، ولازمه تجويز علية كل شئ لكل شئ ومعلولية كل شئ لكل شئ . فإن قلت : هب أن الإنسان الفاعل المختار ليس بعلة تامة ، لكن الواجب ( عز اسمه ) فاعل مختار ، وهو علة تامة لما سواه ، وكون العالم واجبا بالنسبة إليه ينافي حدوثه الزماني . ولذلك اختار قوم [2] أن فعل المختار لا يحتاج إلى مرجح ، واختار بعضهم [3] أن الإرادة مرجحة بذاتها لا حاجة معها إلى مرجح آخر ، واختار جمع [4] أن الواجب ( تعالى ) عالم بجميع المعلومات ، فما علم منه أنه
[1] وهو المتكلمون ، فراجع شرح الإشارات ج 3 ص 131 . [2] وهو الأشاعرة من المتكلمين ، كما قال الحكيم السبزواري في شرح المنظومة ص 85 : ( والأشعري النافي للمرجح ) . وراجع شرح الإشارات ج 3 ص 131 . [3] أي بعض الأشاعرة وهم جمهور المتكلمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري . راجع شرح المقاصد ج 1 ص 236 ، وشرح المواقف ص 290 ، وشرح العقائد النسفية ج 2 ص 100 ، والملل والنحل ج 1 ص 94 . ونسب إليهم أيضا في حوار بين الفلاسفة والمتكلمين ص 117 - 118 ، والأسفار ج 6 ص 320 - 321 . وذهب إليه أيضا المتأخرون من المعتزلة على ما نقل في تعليقة السبزواري على الأسفار ص 325 . [4] هذا القول هو الظاهر مما نسب إلى جمهور أهل السنة والجماعة من أن إرادته ( تعالى ) نافذة في جميع مراداته على حسب علمه بها ، فما علم كونه أراد كونه في الوقت الذي علم أنه يكون فيه ، وما علم أنه لا يكون أراد أن لا يكون . راجع الفرق بين الفرق ص 259 . وقريب منه ما ينسب إلى الحسين بن محمد النجار الذي كان يقول : ( إن الله لم يزل مريدا أن يكون في وقته ما علم أنه يكون وقته ، مريدا أن لا يكون ما علم أنه لا يكون ) . راجع مقالات الإسلاميين ج 1 ص 315 . وتعرض لهذا القول الفخر الرازي في المباحث المشرقية ج 1 ص 479 من دون إشارة إلى قائله .