فصل في أن الحساب والميزان والصراط حق لعلك قد تفطنت من الأصول المتقدمة أن كل مكلف يرى يوم الآخرة ما عمله من خير أو شر محضرا ويصادف كل دقيق وجليل من أفعاله الحسنة أو القبيحة مستطرا في كتاب لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ويعرف أيضا كل واحد مقدار عمله بمعيار صحيح صادق يعبر عنه بالميزان وإن لم يساو ميزان العلوم والأعمال ميزان الأجسام الثقال كما لا يساوي الأسطرلاب الذي هو ميزان المواقيت والمسطرة والفرجار والشاقول التي هي موازين الأبعاد والمقادير والعروض الذي هو ميزان الشعر والذوق السليم الذي هو ميزان بعض المعاني وسائر الموازين . نعم ميزان كل شيء يجب أن يكون من جنس ذلك الشيء كما لا يخفى . ثم يحاسب الناس يوم القيامة على أقوالهم وأفعالهم وسرائرهم وضمائرهم وأفكارهم وعقائدهم ونياتهم مما أبدوه أو أخفوه وإنهم يكونون متفاوتين فيه إلى مناقش في الحساب وإلى مسامح وإلى من يدخل الجنة بغير حساب . فصل في أن الجنة والنار حق وفي إبطال رأي أصحاب الظنون والأوهام اعلم أن لله تعالى عالما آخر غير هذا العالم كما مر وهو عالم الآخرة وعالم الباطن وعالم الغيب وعالم الملكوت . وهذا العالم عالم الدنيا وعالم الظاهر وعالم الشهادة والملك والخلق . ولما كان الإنسان في مبدإ خلقته ناشيا عن مواد هذا العالم الأسفل وله الارتقاء والتوجه إلى العالم الآخرة فبالضرورة لا بد له من المسافرة من مسقط رأسه إلى عالم الغيب . فالله تعالى برحمته وعنايته خلق الأنبياء ع وبعثهم ليكونوا هداة الخلق إلى معادهم وقوادهم في السفر إليه تعالى كرؤساء القوافل وأنزل عليهم الكتب لتعليمهم كيفية السفر والارتحال وأخذ الزاد والراحلة وكيفية الحال عند الوصول إلى منزل الآخرة المعبر عنها بالنبإ العظيم وقوله تعالى : عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيه ِ مُخْتَلِفُونَ . فإن سر القيامة من الأسرار العظيمة التي لم يجوز للأنبياء كشفها لأنهم كانوا أصحاب الشريعة يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها . يوم القيامة يوم الجزاء والثواب بلا عمل والشريعة يوم العمل بلا ثواب . وبوجه آخر الشريعة هي الطريق والمشرع العام والقيامة هي الغاية والمقصد . فصاحب الشريعة يقول : ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ولما علمت وتحققت أن الخلق مأمورون بسلوك طريق الآخرة والسالك لا بد فيه أثرا من المقصود والغاية يتوجه إليه ويسلك نحوه . وذلك الأثر هو المعرفة وينبعث الشوق الإرادي والجبلي ألا ترى أن الإنسان ما لم يكن عارفا بالحق لا يمكن سلوكه إليه والعارف ما لم يكن محبا للحق لا يمكن سلوكه أيضا . فالشوق والمحبة ضرب من