وما لم يؤسّس الإنسان رؤيته الكونية على أساس رصين ومحكم من الناحية النظرية يقع في تخبّط وتناقض وانحراف من الناحية العملية والسلوكيّة . وقد عبّر فلاسفتنا عن الرؤية الكونية ب : الحكمة النظرية ، وعن الآيديولوجيّة ب : الحكمة العمليّة . ولا شكّ أنّ الرؤية الكونية التي هي أساس كلّ شيء في حياة الإنسان لا يمكن الوصول إليها إلاّ عن طريق الاستدلال العقلي والنظري ، وهو ما تتكفّله الأبحاث الفلسفيّة . فمن يقف على أهمّية الرؤية الكونية التي تمثّل أصول الدِّين ، يتبيّن له أنّ دراسة الفلسفة والخوض في البحوث العقليّة لإثبات ذلك من الفرائض التي لا بدّ منها ، وليست دراستها من النوافل التي يجوز للإنسان تركها ، إلاّ إذا أنكر أهمّية أصول الدِّين والرؤية الكونية ، وأمّا إذا أحسَّ بأهمّيتها القصوى في حياته الدنيوية والأخروية فعليه أن يدرس الفلسفة ولو بالمقدار الذي يُثبت له نظريّاً تلك الأسس والأركان . فالبحث الفلسفي العقلي مبدأ لتشكيل الرؤية الكونية ، والرؤية الكونية أساس لبناء الأحكام والأخلاق والقانون ، وهو ما يسمّى بالآيديولوجية والحكمة العملية . ولعلّ صدر المتألّهين أشار إلى هذه الفائدة العظيمة في دراسة الفلسفة بقوله : « ومن النظرية : العلم بأحوال المبدأ والمعاد والتدبّر فيما بينهما حقّ النظر والاعتبار ؛ قال أمير المؤمنين « عليه السلام » : « رحم الله امرأً أعدّ لنفسه واستعدّ لرمسه ، وعلم من أين وفي أين وإلى أين » [1] .
[1] بحار الأنوار ، محمد باقر المجلسي ، تحقيق ونشر دار إحياء التراث ، الطبعة الأولى ، بيروت : ج 74 ص 187 .