ثمّ لا يخفى شرفُ الحكمةِ مِن جهاتٍ عديدةٍ ، منها : أنّها صارتْ سبباً لوجودِ الأشياءِ على الوجهِ الأكملِ ، بل سبباً لنفسِ الوجودِ ؛ إذ ما لم يُعرف الوجودُ على ما هو عليه لا يمكنُ ايجادُه وإيلادُه ، والوجودُ خيرٌ محضٌ ، ولا شرفَ إلّا في الخيرِ الوجوديِّ . وهذا المعنى مرموزٌ في قوله تعالى : * ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً ) * . وبهذا الاعتبارِ سمّى اللهُ تعالى نفسَه حكيماً في مواضعَ شتّى من كتابهِ المجيدِ الذي هو تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ ، ووصفَ أنبياءَه وأولياءَه بالحكمةِ وسمّاهم ربّانيين حكماءَ بحقائقِ الهويّاتِ فقال : * ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ) * . وقال خصوصاً في شأن لقمانَ : * ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) * . كلُّ ذلك في سياقِ الإحسانِ ومعرض الامتنان ، ولا معنى للحكيمِ إلّا الموصوفُ بالحكمةِ المذكورةِ حدُّها ، التي لا يُستطاعُ ردُّها . ومن الظاهرِ المكشوفِ أنْ ليسَ في الوجودِ أشرفُ من ذاتِ المعبودِ ، ورسلِه الهداةِ إلى أوضحِ سبلِه ، وكلاًّ من هؤلاء وصفَه تعالى بالحكمةِ . فقد انجلى وجهُ شرفِها ومجدِها ، فيجبُ إذن انتهاجُ معالمِ غورِها ونجدِها ، فلنأْتِ على إهداءِ تحفٍ منها وإيتاءِ طُرَفٍ فيها ، ولنُقبل على تمهيدِ أصولِها وقوانينِها ، وتلخيصِ حججِها وبراهينِها بقدر ما يتأتّى لنا ، وجمعِ متفرّقاتٍ شتّى واردةٍ علينا من المبدأِ الأعلى ؛ فإنّ مفاتيحَ الفضلِ بيدِ اللهِ يؤتيهِ مَن يشاء .