والسؤال الذي يطرح في المقام هو : ما معنى الاحتجاب المذكور ؟ فهل هو بمعنى إعدام عالم الكثرة أم هو شئ آخر ؟ وللجواب عن هذا السؤال نقول : إنّ المراد من الاحتجاب هو عدم الالتفات إلى الكثرة والانشغال التامّ بالوحدة ، ومن الواضح إنّ عدم الالتفات إلى الشئ لا يعني انعدامه خارجاً ، فالإحتجاب هو عدم رؤية عالم الكثرة ، لا أنّ عالم الكثرة يُصبح عدماً . ولعلك تسأل : كيف يمكن التصديق بحالة عدم الالتفات هذه ؟ أيُعقل أن لا يلتفت الإنسان إلى أفعاله ؟ والجواب عن ذلك واضح ، فإنّ هذا المعنى حاصل وواقع في الخارج كثيراً ، وهناك شاهد قرآنيّ على حصوله مع كون الفعل المرافق له موجباً للألم الشديد ، والشاهد قوله تعالى : * ( فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) * . فالنسوة لم يشعرن بالألم حين قطّعن أيديهنّ عند لقائهنّ يوسف « عليه السلام » بل صحْنَ بدهشة : * ( مَا هَذَا بَشَرًا ) * وقُلن بوجد : * ( نْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) * [1] . وهنا يعلّق صاحب الرسالة القشيرية قائلاً : « فهذا تغافل مخلوق عن أحواله عند لقاء مخلوق ، فما ظنّك بمن تكاشف [2] بشهود الحقّ سبحانه » [3] ، وعليه فعدم الالتفات أمر ممكن وواقع ، بل هو كثير الوقوع . وهذا المعنى للاحتجاب هو نفسُهُ معنى الفناء ، فإنّ السالك في هذا المقام الذي هو منتهى السفر الأوّل ، لا يرى في العالم إلاّ الوحدة ، وبذلك تحتجب الكثرة فيصير المرئيّ والمشاهد واحداً لا غير ، وهو الله سبحانه وتعالى ، وهذه
[1] يوسف : 31 . [2] أي : أُزيلت عنه الحُجب . [3] الرسالة القُشيرية ، مصدر سابق : ص 140 .