إذن أثبت المصنّف بهذا البيان التشكيك في حقيقة الوجود ومصاديقه الخارجيّة ، ومن هنا نفهم أنّ منشأ التشكيك الخاصّي هو الوجود الخارجي ، لا المفهوم بما هو مفهوم ، وليست نسبة التشكيك إلى المفهوم إلاّ نسبة ووصف بحال متعلّق الشئ . النقطة الثانية : إنكار التشكيك في الماهية إنّ ما أثبتناه من التفاوت بالتقدّم والتأخّر أو الشدّة والضعف ، إنّما هو لحقيقة الوجود في الخارج ، وليس للماهيّة في ذلك نصيب . إن قلت : إنّ المشّائين قد ذكروا أنّ العقل مثلاً متقدّم بالطبع على الهيولى ، وأنّ الهيولى أو الصورة متقدّمان بالطبع على الجسم ، ومن الواضح أنّ هذه الأمور كالعقل والهيولى والصورة والجسم كلّها من الماهيّات ، ومعنى ذلك أنّ التقدّم والتأخّر قد يقع بين الماهيّات أيضاً . قلت : ليس مراد المشّائين أنّ ماهيّة الصورة مثلاً متقدّمة بالطبع على ماهيّة الجسم ، بل المقصود أنّ وجود الصورة متقدّم على وجود الجسم بالطبع ، وكذا وجود العقل متقدّم بالطبع على وجود الهيولى . بيان ذلك : إنّ الموجودات التي يحصل فيها التقدّم والتأخّر على قسمين : القسم الأوّل : أن يكون ما فيه التقدّم وما به التقدّم شيئاً واحداً [1] ، كتقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعض ، فعندما نقول : إنّ يوم الأحد مثلاً متقدّم على يوم الاثنين ، يكون ما فيه التقدّم وملاكه هو ذات أجزاء الزمان وهما الأحد والاثنين ، وما به التقدّم أيضاً ذات أجزاء الزمان ، فأجزاء الزمان هي المتقدّمة والمتأخّرة وهي ملاك التقدّم والتأخّر ، فيكون التقدّم والتأخّر فيها بنفس هويّاتها المتجدّدة ، لا بأمر خارج عارض لها .
[1] ما فيه التقدّم : أي سبب التقدّم وملاكه . وما به التقدّم : أي الشئ الذي يقع متقدّماً على غيره .