ومنشأ الخلاف اختلاف الرواة في إحرامه ( ص ) ، روى الشيخان عن جابر وعائشة رضي الله تعالى عنهما : أنه ( ص ) أفرد الحج ورويا عن ابن عمر : أنه أحرم متمتعا . ورجح الأول بأن رواته أكثر ، وبأن جابرا منهم أقدم صحبة وأشد عناية يضبط المناسك ، وبالاجماع على أنه لا كراهة فيه ، وبأن التمتع والقران يجبر فيهما الدم ، بخلاف الافراد ، والجبر دليل النقصان . قال في المجموع : والصواب الذي نعتقده أنه ( ص ) أحرم بحج ثم أدخل عليه العمرة ، وخص بجوازه في تلك السنة للحاجة ، وأمر به في قوله : لبيك عمرة في حجة وبهذا يسهل الجمع بين الروايات ، فعمدة رواة الافراد وهو الأكثر أول الاحرام ، وعمدة رواة القران آخره ، ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع ، وقد انتفع بالاكتفاء بفعل واحد ، ويؤيد ذلك أنه ( ص ) لم يعتمر في تلك السنة عمرة مفردة ، ولو جعلت حجته مفردة لكان غير معتمر في تلك السنة ، ولم يقل أحد أن الحج وحده أفضل من القران ، فانتظمت الرواة في حجه ( ص ) في نفسه . وأما الصحابة رضي الله تعالى عنهم فكانوا ثلاثة أقسام : قسم أحرموا بحج وعمرة أو بحج ومعهم هدي . وقسم بعمرة ففرغوا منها ثم أحرموا بحج . وقسم بحج ولا هدي معهم ، فأمرهم ( ص ) أن يقلبوه عمرة ، وهو معنى فسخ الحج إلى العمرة ، وهو خاص بالصحابة رضي الله تعالى عنهم أمرهم به ( ص ) لبيان مخالفة ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج واعتقادهم أن إيقاعها فيه من أفجر الفجور ، كما أنه ( ص ) أدخل العمرة على الحج كذلك ، فانتظمت الروايات في إحرامهم أيضا . فمن روى أنهم كانوا قارنين أو متمتعين أو مفردين أراد بعضهم ، وهم الذين علم ذلك منهم ، وظن أن البقية مثلهم . وأما تفضيل المتمتع على القارن فلان أفعال النسكين فيه أكمل كما مر . وقولنا : وبعده التمتع ثم القران ، أي وهو أفضل من الحج فقط ثم الحج فقط ، أفضل من العمرة فقط . فإن قيل : ينبغي أنه لو قرن واعتمر بعد الحج كان أفضل من الافراد لاشتماله على المقصود مع زيادة عمرة أخرى ، ونظير ما قالوه في التيمم أنه إذا رجا الماء فصلى أولا بالتيمم على قصد إعادتها بالوضوء فإنه أفضل لا محالة . وهكذا إذا اعتمر المتمتع بعد الحج أيضا ، خصوصا إذا كان مكيا وعاد لاحرام الحج إلى الميقات ، فإن فوات هذه الشروط لا تخرجه عن كونه متمتعا وإنما سقط الدم . أجيب بأن هذا التفضيل الذي ذكره الأصحاب إنما هو عند إتيانه بنسكين فقط ، وفي هاتين الصورتين قد أتى بنسك ثالث ، فليست هي الصورة المتكلم عليها . فإن قيل : قد تقدم أن الجبر دليل النقصان ، ولا شك أن فيما ذكر وجوب الدم . أجيب بأن النسك الثالث جبر ذلك النقص ، وهذا نظير ما قالوه في إفراد صوم يوم الجمعة ، فإنهم عللوا الكراهة بضعفه عما في ذلك اليوم من وظائف العبادات ، وقالوا : لو صام معه غيره ذلك الكراهة ، لأن صوم ذلك اليوم يجبر ما يفوته . ( وعلى المتمتع دم ) لقوله تعالى : * ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) * والمعنى في إيجاب الدم كونه ربح ميقاتا ، فإنه لو كان قد أحرم بالحج أولا من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة . وإذا تمتع استغنى عن الخروج لأنه يحرم بالحج من جوف مكة . والواجب شاة تجزئ في الأضحية ويقوم مقامها سبع بدنة أو سبع بقرة ، وكذا جميع الدماء الواجبة في الحج الاجزاء الصيد ، وسيأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى . ( بشرط أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ) لقوله تعالى : * ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) * . قوله تعالى : * ( ذلك ) * أي ما ذكر من الهدي والصوم عند فقده ، وقوله : * ( لمن ) * معناه على من . ( وحاضروه من ) مساكنهم ( دون مرحلتين من مكة ) لأن المسجد الحرام المذكور في الآية ليس المراد به حقيقته بالاتفاق ، بل الحرم عند بعضهم ومكة عند آخرين ، وحمله على مكة أقل تجاوزا من حمله على جميع الحرم . ( قلت : الأصح من الحرم ، والله أعلم ) لأن الماوردي قال : إن كل موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فهو الحرم إلا قوله تعالى : * ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) * فهو نفس الكعبة ، فإلحاق هذا بالأعم الأغلب أولى ، والقريب من الشئ يقال إنه حاضره ، قال تعالى : * ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ) * أي قريبة منه ، والمعنى في ذلك أنهم لم يربحوا ميقاتا ، أي عاما لأهله ولمن مر به ، فلا يشكل من