هذا مع الاحتفاظ لنفسه بحقّ المناقشة والنقد ، والنقض والإبرام ، فهو من أكابر الفقهاء والمجتهدين ، وله رأيه بحسب ما يؤدّي إليه اجتهاده . والحاصل أنّا إذا ما قمنا بتطبيق الكتاب على عبارات مباحث البيع من مفتاح الكرامة تجد أنّه ما من مسألة إلاّ والسيد العاملي ناظر فيها إلى كلام أُستاذه ، أو ناقل رأيه فيها ، أو مقتبس ومدخل لها في عبارته ، جاعلاً لها كالجزء من كلامه ، وقد يجعلها محصّل البحث ويختم بها كلامه ، كما في مسألة بيع السلاح لأعداء الدين ، في قوله ( والتحقيق ) قبل قوله ( تنبيه ) . وأمّا الشيخ النجفي في جواهره فهو الآخر قد أعار هذا الكتاب أهمية فائقة ، وجعل مطالبه من مواد بحثه ، فهو في كثير من المسائل يتعرّض لرأي المؤلّف وينقل عباراته كاملة بعنوان ( وفي شرح الأستاذ ) أو ( شيخنا في شرحه كما عبّر عنه ( بالأستاذ الأكبر ) في مسألة أكل المارّة من الثمر ، وينهال عليها بالمناقشة تارة ، وبالشرح والتوضيح أُخرى ، أو اتخاذ رأي أُستاذه مؤيداً وداعماً لما يذهب إليه . وهكذا تراه في جميع المسائل المهمّة من كتاب التجارة متعرضاً لكلام أستاذه ، حتى أنّه اكتفي في بعض المسائل بذكر كلامه ، كما في آداب التجارة ، معبّراً عنه ب ( بعض مشايخنا ) . وأحياناً يصل إعجابه بما قاله أُستاذه مطلباً وعبارةً إلى حدّ التبنّي لذلك وجعل ذلك جزءً من كلامه من عبارات كتابه . وليس هذا كلّ ما يعرف عن مقامه العلمي ، بل في هذا الباب أقاويل وحكايات كثيرة ، سيّما ما يرتبط منها بقوّة ذاكرته وحافظته [1] ، أعرضنا عن
[1] منها منا يدور على الألسن من أن طريقة بحثه في مجلس درسه لم تكن على ما هو المتعارف عند الأساتذة والمدرّسين ، من التسلسل في أبواب الفقه ، والتعرّض لمسائلها بالترتيب ، وإنّما كان عند حضوره للدرس يحمل معه شرائع المحقق ، فإذا ما اعتلى منبر التدريس تناول الكتاب منع بعض تلامذته الحافّين به ، ويفتح لا على التعيين ، على نحو من يستخير بالمصحف أو يتفاءَل به ، فأيّ صفحة خرجت فهي ، ويختار منها التلميذ مسألة ، ويقرؤها بصوت عال يسمعه الحضار ، ويصغون إليها ، وهي موضوع البحث ذلك اليوم ، وبعد انتهاء القراءَة ، يبدأ الشيخ البحث بنقل الأقوال وتحرير محلّ النزاع ، ثمّ يأخذ بالاستدلال عليها بالعمومات ، ثمّ بالأدلة الخاصّة . ومن طريف ما ينقل في هذا الباب ما حدّثني به بعض مشايخي الأجلاّء ، قال : حدثني المرحوم السيد موسى ابن السيد جعفر ابن السيد محمد آل بحر العلوم ، المتوفى سنة 1396 ، أيّام قراءَتي عليه شرح اللّمعة . قال : أنّه سمع ممّن أدركه من العلماء أنّ شيخاً من شيوخ عشائر الدغّارة توفي في زمن الشيخ كاشف الغطاء ، وأوصى بثلث ماله له ، فجاء الرسول من ذويه إلى الشيخ يطلب إليه أن يتصدّى لقبضه ، فانتخب الشيخ أحد تلاميذه لينوب عنه في ذلك ، وسافر الوكيل إليهم ، وطال مكثه عندهم ] ولعلّ السبب في ذلك كون أموال المتوفّى عبارة عن محاصيل زراعية أو ماشية أو أراض زراعية ، وبيع هذا النوع من المال وتبديله نقوداً يحتاج إلى وقت طويل ، والمطلوب منه أن يعود بالمال نقوداً لا سلعاً . ومن جهة أُخرى ربّما أزعج تأخّره إخوانه الطلبة في النجف المنتظرين عودته ، فإنّ المال سيوزعه الشيخ عليهم ، ويغيثهم من بعض مراتب الفقر لمدّة غير طويلة [ ثمّ رجع بعد طول المدّة ، وقد تزوّد زوجة المتوفّى ، وجاء بها وبالمال إلى فأخذ الشيخ المال ووزعه على تلاميذه . واتفق أنّ أحد التلاميذ كان غائباً عند القسمة ، فلم يكن له نصيب ، ولمّا حضر وعلم بتقسيم المال استغل طريقة الشيخ المذكورة في التدريس ، لانتزاع شيء من المال منه ، فكان منه أن جاء إلى مجلس الدرس مبكراً ، ليحصل على مكان محاذ للمنبر ، ولمّا حضر الشيخ ، واستقرّ على المنبر ، بادر هو لأخذ كتاب الشرائع من أستاذه ، وفتحه ، وقرأ ، رافعاً صوته : « مسائل ثلاث : الأُولى : مال الميّت للوصي ، وفي زوجته تردد وإشكال ، والأشبه أنّها للوكيل » فنسحبها على غرار مسائل الشرائع ، وعلى وزان عباراتها ، يعني بالوصي الشيخ ، وبالوكيل مَن ذهب نيابة عنه . فوجم الطلاّب لغرابة المسألة ، ثمّ أنكروا عليه أن تكون في الكتاب مسألة كهذه ، وحاولوا أخذ الكتاب منه لينظروا ماذا قرأ . فصاح بهم : ويحكم أوَ لا أُحسن قراءَة عبارة ، وامتنع من تسليهم الكتاب . وقال لهم انصتوا فسأقرأ مرّة ثانية ، فقرء نفس ما قرأ أولاً ، والتفت الشيخ إلى النكتة وأخرج شيئاً من المال ، وانحنى عليه ، وناوله له ، بهدوء ومهارة دون أن يشعر الحاضرون ، وعندها ترك الكتاب لغيره ، ليقرأ ويبدء الدرس . انتهت الحكاية . ومعنى هذا أنّ المؤلّف يستحضر جميع الفروعات والأحكام ومستنداتها والأقوال فيها ، ولذا ينقل عنه قوله : « لو محيت كلّ كتب الفقه أكتب من أوّل الطهارة إلى الديات » وكان على ثقة شديدة من نبوغه ، واطمئنان من تفوّقه وتقدّمه ، في كل فج يقتحمه ، وواد يسلكه ، وبحر يخوضه ، فمن الطرائف أيضاً ما ينقل أنّه كان جالساً في بعض الأيام بين أصحابه ، فجرى ذكر الشعر بينهم . فقال : إنّ الله ستر على الشعراء حيث لم يجعلني منهم ، وإلاّ فما كنتُ أُبقي سوقاً هلم . فقال له أحد تلاميذه : يا مولانا وما كان ذنب العلماء حتى لم يستر الله عليهم فجعلك منهم ؟ ! فضحك الشيخ والحاضرون .