كثيرا من الأحيان ينهون عن ذلك كما ينهون عن سائر المنكرات . وقد قال بعض المدقّقين : ومن أوضح تسويلات الشيطان أنّ الرجل المتستر قد تدعوه نفسه لأجل التفرّج والتنزّه والتلذّذ إلى ما يوجب نشاطه ودفع الكسالة عنه من الزمزمة الملهية ، فيجعل ذلك في بيت من الشعر المنظوم في الحكم والمراثي ونحوها ، فيتغنّى به ، أو يحضر عند من يفعل ذلك ، وربّما يعدّ مجلسا لأجل إحضار أصحاب الألحان ، ويسميه مجلس المرثية ، فيحصل له بذلك ما لا يحصل من ضرب الأوتار من النشاط والانبساط ، وربما يبكي في خلال ذلك لأجل الغموم المركوزة في قلبه الغائبة عن خاطره من فقد ما يستحضره القوى الشهوية ، ويتخيّل أنّه يبكي في المرثية وفاز بالمرتبة العالية ، وقد أشرف على النزول إلى دركات الهاوية ، فلا ملجأ إلَّا إلى اللَّه من شرّ الشيطان والنفس الغاوية [1] انتهى . فدعوى جريان السيرة من المسلمين على التغنّي في المراثي ، بحيث تكشف عن إباحته ، محلّ مناقشة واضحة . الثاني : ما دلّ على جواز النياحة وإباحة كسب النائحة . مثل ما يأتي من الأخبار في الخاتمة . وجه الدلالة : أنّ التغنّي من لوازم النياحة ، وأثره لا ينحصر في السرور والفرح ، كما عرفته . الثالث : أنّ الغناء إنّما يحرم للطرب ، وليس في المراثي طرب ، فإنّها موضوعة للحزن ، وبعبارة أخرى : الطرب معتبر في مفهوم الغناء ، فلا يكون ما يقصد به الحزن غناء . وفيه : ما لا يخفى ، إذ قد عرفت أنّ الطرب المأخوذ في مفهوم الغناء أعمّ من الفرح والحزن . والقول بأنّ الغناء أثره منحصر في الأوّل يكذّبه الوجدان ، ضرورة أنّه ربّما يهيج الحزن والبكاء .