هذا ، وبعد ما أيقنت ذلك ، ظهر لك اندفاع ما يستشكل من أنه إذا كانت العبادة المكروهة صحيحة راجحة وجودها على عدمها ، فلم كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليهم السلام ) يتركونها وينهون عنها بالنهي التنزيهي ، على ما نقل عنهم ( عليهم السلام ) ؟ ولم فات عنهم تلك الفضيلة وذلك الثواب ؟ إذ قد عرفت أنه فيما كان له بدل - كالصلاة في الحمام - لا إشكال أصلا ، وفيما لا بدل له - كالصوم في الأيام المكروهة - يجوز أن يكون خصوصه مرجوحا وإن كان أصل الصوم راجحا ، فيكون القبح المتحقق في تلك الخصوصية المقارنة له أزيد من ثواب أصل الفعل ، بحيث تبقى مع تعارضها وسقوط الثاني كراهة بعد فعله . فلذلك تركوه ونهوا عن فعله بالنهي التنزيهي ، فتأمل . وظهر أيضا أن ما ادعاه الفاضل المحقق الشيخ علي ( رحمه الله ) من أن الكراهة في العبادات ليست إلا بمعنى قلة الثواب [1] ، إذ العبادة لا تكون إلا راجحة أو محرمة ، فإذا كانت العبادة صحيحة مكروهة ، فليست الكراهة فيها إلا بمعنى قلة الثواب ، مما لا حاجة إلى ارتكابه ، إذ الكراهة بالمعنى المصطلح مما يعقل هاهنا ، فلا حاجة إلى العدول عنه بلا دليل . على أنه يرد عليه أن قلة الثواب لو كانت هي الكراهة لزم أن يكون كثير من العبادات مكروهة مما لم يقل بكراهته أحد ، مثلا : الصلاة في البيت أقل ثوابا بالنسبة إلى الصلاة في مسجد السوق ، وفي مسجد السوق بالنسبة إلى مسجد المحلة ، وفي مسجد المحلة بالنسبة إلى المسجد الجامع ، وفي المسجد الجامع بالنسبة إلى مسجد الكوفة والأقصى ، وفيهما بالنسبة إلى مسجد المدينة ، وفيه بالنسبة إلى المسجد الحرام . . إلى غير ذلك من العبادات المكروهة بمرتبة لا ينتهي إليها ثواب
[1] جامع المقاصد : 2 / 37 ، ولاحظ أيضا : مشارق الشموس : 372 .