ولكننا نقرر أن كتّاب القرن الرابع عمدوا إلى كل ما يقع عليه الحس ، أو يجرى في الخاطر ، أو ينقده العقل ، فوصفوه وصفا مفصلا مقصودا بطريقة لم يفكر في مثلها المتقدمون . وقد قدم لنا صاحب زهر الآداب شواهد كثيرة في مواطن متفرقة من كتابه عن الأوصاف التي عنى بها كتاب ذلك العصر . فلنثبت منها شيئا ليرى القارئ صدق ما نراه من قصد رجال ذلك العهد إلى إجادة الوصف . من ذلك قولهم في وصف الماء : ماء كالزجاج الأزرق . غدير كعين الشمس . ماء كلسان الشمعة ، في صفاء الدمعة ، يسبح في الرّضراض ، سبح النّضناض . ماء أزرق كعين السّنور ، صاف كقضيب البلور . غدير ترقرقت فيه دموع السحائب ، وتواترت عليه أنفاس الرياح الغرائب . وقولهم في وصف سكَّين : « سكين كأن القدر سائقها ، أو الأجل سابقها ، مرهفة الصدر ، ممنطقة الخضر ، يجول عليها فرند العتق ، ويموج فيها ماء الجوهر ، كأن المنية تبرق من حدها ، والأجل يلمع من متنها ، ركَّبت في نصاب آبنوس ، كأن الحدق نفضت عليه صبغها ، وحب القلوب كسته لباسها ، أخذ لها حديدها الناصع بحظ من الروم ، وضرب لها نصابها الحالك بسهم من الزنج ، فكأنها ليل من تحت نهار ، أو مجمر أبدى سنا نار ، ذات غرار ماض ، وذباب قاض . سكين أحسن من التلاق ، وأقطع من الفراق ، تفعل فعل الأعداء ، وتنفع نفع الأصدقاء » .