وإعجازا ، فحسبت ألفاظه درّ السحاب ، أو أصفى قطرا وديمة ، ومعانيه درّ السّخاب [1] ، بل أوفى قدرا وقيمة . وتأملت الأبيات فوجدتها فاثقة النّظم والرّصف ، عبقة النسيم والعرف ، فائزة بقداح الحسن والظَّرف ، مالكة لزمام القلب والطَّرف ؛ ولا غرو أن يصدر مثلها عن ذلك الخاطر ، وهو هدف الفقر والنوادر ، وصدف الدرر والجواهر ، واللَّه يمتّعه بما منحه من هذه الغرر والأوضاح ، كما أطلق فيه ألسنة الثناء والامتداح . وأبو منصور هذا يعيش إلى وقتنا هذا [ على طريق التخمين لا على حقيقة اليقين ] وهو فريد دهره ، وقريع عصره ، ونسيج وحده ، وله مصنفات في العلم والأدب ، تشهد له بأعلى الرتب ، وقد فرّقت ما اخترته منها في هذا الكتاب ، مع ما تعلَّق بشاكلته من الخطاب [2] ؛ منها كتاب سماه « سحر البلاغة » قال في صدر هذا الكتاب : « أخرجت بعضه من غرر نجوم الأرض ، ونكت أعيان الفضل ، من بلغاء العصر ، في النثر ، وحللت بعضه من نظم أمراء الشعر ، الذين أوردت ملح أشعارهم في كتابي المترجم بيتيمة الدهر ، فلفقت جميع ذلك وحرّرته ، وسقته ونسّقته ، وأنفقت عليه ما رزقته ، وعملته بكدّ الناظر ، وجهد الخاطر ، وتعب اليمين ، وعرق الجبين ، وتعمّدت فيه لذّة الجدة ، ورونق الحداثة ، وحلاوة الطَّراوة ، ولم أشبه بشئ من كلام غير أهل العصر ، إلا في قلائل وقلائد من ألفاظ الجاحظ وابن المعتز ، تخلَّلت أثناءه ، وتوشّحت تضاعيفه ، ولم أخل كلماته - التي هي وسائط الآداب ، وصياقل الألباب ، وما تستمتعه أنفس
[1] السخاب : قلادة من القرنفل [2] كان الثعالبي فراء يخيط جلود الثعالب ، فنسب إلى صناعته ، ثم أقبل على الأدب والتاريخ فنبغ ، وترك طائفة من المؤلفات القيمة أشهرها يتيمة الدهر ، وكانت وفاته سنة 429