التّقريب [1] إلا بعد الرياضة ، وكان كالمهر الذي أطمع أوّل رياضته في تمام ثقافته . وقال الجمّال : البليغ من أخذ بخطام كلامه ، فأناخه في مبرك المعنى ، ثم جعل الاختصار له عقالا ، والإيجاز له مجالا ، فلم يندّ عن الآذان ، ولم يشذ عن الأذهان . وقال المخنّث : خير الكلام ما تكسّرت أطرافه ، وتثنّت أعطافه ، وكان لفظه حلَّة ، ومعناه حلية . وقال الخمار : أبلغ الكلام ما طبخته مراجل العلم ، وصفّاه راووق الفهم ، وضمّته دنان الحكمة ، فتمشّت في المفاصل عذوبته ، وفي الأفكار رقّته ، وفي العقول حدّته . وقال الفقاعي : خير الكلام ما روّحت ألفاظه غباوة الشكّ ، ورفعت رقّته فظاظة الجهل ، فطاب حساء فطنته ، وعذب مصّ جرعه . وقال الطبيب : خير الكلام ما إذا باشر [ دواء ] بيانه سقم الشّبهة استطلقت طبيعة الغباوة ؛ فشفى من سوء التفهم ، وأورث صحة التوهّم . وقال الكحّال : كما أن الرمد قذى الأبصار ، فكذا الشبهة قذى البصائر ، فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة ، واجل رمص الغفلة [2] بمرود اليقظة . ثم قال : أجمعوا كلهم على أن أبلغ الكلام ما إذا أشرقت شمسه ، انكشف لبسه ، وإذا صدقت أنواؤه [3] اخضرت أحماؤه [4] . فقر في وصف البلاغة لغير واحد قال أعرابي : البلاغة التقرب من البعيد ، والتباعد من الكلفة ، والدلالة بقليل على كثير .
[1] التقريب : ضرب من العدو ، أو هو أن يرفع الجواد يديه معا ويضعهما معا [2] الرمص : وسخ أبيض يجتمع في موق العين [3] الأنواء : جمع نوء ، وهو النجم مال للغروب ، والمراد به هنا المطر [4] الأحماء : جمع حمى ، وهو المكان يحميه الرجل ويمنعه