ذلك على أن فواصل المقامات يقوم غالبها مقام المثل السائر وحسن خواتمها تعقد عليه الخناصر وقد عن لي أن أورد هنا مقامة كاملة فإذا نظر المتأمل إلى براعة استهلالها وفهم القصد الذي جنح إليه الحريري عرف مقدار حسن الختام الذي تمت به الفائدة وحسن السكوت عليه وقد اخترت المقامة الثالثة عشرة وهي الزورائية لأنه ثبت عن القاضي الفاضل أنه شرع في معارضة المقامات وعارض منها كل فصل بفصل أحسن به إلى أن وصل إلى فصل هذه المقامة الذي سيأتي وأنبه عليه في موضعه والمقامة الموعود بإيرادها هو قوله حكى الحرث بن همام قال ندوت بضواحي الزوراء مع مشيخة من الشعراء لا يعلق لهم مبار بغبار ولا يجري معهم ممار في مضمار فأفضنا في حديث يفضح الأزهار إلى أن نصفنا النهار فلما غاض در الأفكار وصبت النفوس إلى الأوكار لمحنا عجوزا تقبل من البعد وتحضر إحضار الجرد وقد استتلت صبية أنحف من المغازل وأضعف من الجوازل فما كذبت إذ رأتنا أن عرتنا حتى إذا ما حضرتنا قالت حيا الله المعارف وإن لم يكن معارف اعلموا يا مال الأمل وثمال الأرامل أني من سروات القبائل وسريات العقائل والفصل الذي عجز الفاضل عنه هو لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر ويسيرون القلب ويمطون الظهر ويولون اليد فلما أردى الدهر الأعضاد وفجع بالجوارح الأكباد وانقلب ظهرا لبطن نبا الناظر وجفا الحاجب وذهبت العين ونفدت الراحة وصلد الزند ووهت اليمين وبانت المرافق ولم يبق لنا ثنية ولا ناب قلت وهذا الفصل الذي أحجم القاضي عن معارضته قلت في معناه وكتبت إلى سيدنا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي نور الله ضريحه رسالة مجسده مشتملة على ذلك جيده راعيت فيها النظير لأجل الصدر من الرأس إلى القدم ولم أخرج فيها عن حسن الختام الذي ما ختمت رسالة بنظيره والتزمت فيها السجع الذي فر الحريري منه في فصله وقد عن لي أن أثبت الرسالة هنا بكمالها وأرجع إلى ما كنا فيه من حسن الختام في المقامة الحريرية والرسالة هي يقبل أرضا بالعلا قد تجسدت * بأرواح أهل العلم روضة مشتهى وهبت بأنفاس العلوم قبولها * ولا زال صدر الدين منشرحا بها وينهى أن الصدر رأس العلوم وكم له من فرق دق على الأفهام وهو كالغرة في جباه الأيام لا زال المجد له حاجيا مقرونا بسعده الشامل ولا برح بعلمه عينا لوجوه المسائل فلله أهداب معانيه التي هي أسحر من عيون الغزلان وأمضى من السيوف إذا برزت من الأجفان وأصداغ فضائله التي هي عاطفة على وجنات الوجود لأنها كالعوارض الماطرة وكم أنست عند ذكره من سالفة وكم لها في قلوب الأعداء من خدود وندى جوده الذي إذا جاءه الشارب وجد عنده شفاه وحلاوة نظمه الذي أنسانا ذكر العذيب وثناياه وعنق مكارمه التي ألفت من البديع الالتفات وأوصافه التي غدت على خد الدهر شامات حتى تبدلت سيئاته حسنات كف عنا تعب الفقر بكرم راحته المتزايد من غير أن يقال له ساعد وشهدنا بأن أياديه بحر يفيض بصنائعه فأشار النيل إلى قبول هذه الشهادة بأصابعه فلله ندى يمينه الذي لم يزل المملوك به في بلاد الشام مكفي وكم فاض منه قلب النيل وجهد أن يوفيه بالباع والذراع فما وفي جبلت على محبته القلوب فصار حبه ظاهرا في كل باطن وحنت إليه الجوارح لما سارت مناقبه إلى كل جانب فحركت كل ساكن ورفع المملوك أدعيته التي هي إن شاء الله تعالى نعيم للبدن الكريم واعتدال اللطيف ذلك المزاج وأثنيته التي هي كالمناطق على خصور الحسان وبها لكل قلب ابتهاج ولكن تثاقلت عليه أرداف النوى وأسكنت في وسط لبه الجوى وقده الانقطاع بسيفه الذي زاد في حده ولكن جار في قده ولو حصر المملوك ما ساق إليه البعد من الاشتياق إلى تقبيل الأقدام لم تسعه قائمه وهو