سبب فضل العرب على غيرهم ( وسبب هذا الفضل - والله أعلم - ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم ، وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع وإما بالعمل الصالح ، والعلم له مبدأ ، وهو : قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ ، وتمام ، وهو : قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة ، والعرب هم أفهم من غيرهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة ، ولسانهم أتم الألسنة بياناً وتمييزاً للمعاني جمعاً وفرقاً ، يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل إذا شاء المتكلم الجمع ، ثم يميز بين كل شيئين مشتبهين بلفظ آخر مميز مختصر ، كما تجده من لغتهم في جنس الحيوان ؛ فهم - مثلاً - يعبرون عن القدر المشترك بين الحيوان بعبارات جامعة ، ثم يميزون بين أنواعه في أسماء كل أمر من أموره : من الأصوات ، والأولاد ، والمساكن ، والأطفال ، إلى غير ذلك من خصائص اللسان العربي التي لا يستراب فيها . وأما العمل ؛ فإن مبناه على الأخلاق ، وهي الغرائز المخلوقة في النفس ، وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم ؛ فهم أقرب للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء وغير ذلك من الأخلاق المحمودة ، لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير ، معطلة عن فعله ، ليس عندهم علم منزل من السماء ولا شريعة موروثة عن نبي ، ولا هم - أيضاً - مشتغلين ببعض العلوم العقلية المحضة ؛ كالطب والحساب ونحوها ، إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب ، أو ما حفظوه من أنسابهم وأيامهم ، أو ما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم أو من الحروب . فلما بعث الله محمداً ( ص ) بالهدى الذي ما جعل الله في الأرض ولا يجعل أمراً أجل منه وأعظم قدراً ، وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم ، ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية والظلمات الكفرية ، التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتها ، فلما تلقوا عنه ذلك الهدي العظيم زالت تلك