وضاق عنه الرحم كيف هداه السبيل إلى الخروج حتى تنكس وتحرك ، وخرج من ذلك المضيق كأنه عاقل بصير ، ولما خرج وكان محتاجا إلى الغذاء ولم يحتمل بدنه الأغذية الكثيفة للينه ورخاوته خلق له اللبن اللطيف ، واستخرجه من بين الفرث والدم ، خالصا سائغا ، وخلق الثديين وجمع فيهما هذا اللبن ، وأنبت منهما الحلمة على قدر ما ينطبق فم الصبي ، وهداه إلى التقامها ، وفتح فيها ثقبا ضيقة جدا ، حتى لا يخرج اللبن إلا بعد المص تدريجا ، لأن الطفل لا يطيق منه إلا القليل ، ثم هداه إلى الامتصاص حتى يستخرج من مثل هذا المضيق اللبن الكثير عند شدة الجوع ، وأخر خلق الأسنان إلى تمام الحولين ، لأنه لا يحتاج فيهما إليها لتغذيه باللبن ، وما دام مغتذيا به لما كان في دماغه رطوبة كثيرة سلط عليه البكاء ، لتسيل به تلك الرطوبة ، فلا تنزل إلى بصره أو إلى غيره من أعضائه فتفسده . ثم لما كبر ولم يوافقه اللبن السخيف وافتقر إلى الأغذية الغليظة المحتاجة إلى المضغ والطحن أنبت له الأسنان عند الحاجة من دون تقديم وتأخير ، وحنن عليه قلوب الوالدين بالقيام على تربيته وتكفل حاله ما دام عاجزا عن تدبير نفسه . ثم رزقه الإدراك والفهم والقدرة والعقل على التدريج حتى بلغ ما بلغ ، وأودع في نفسه المجردة وقواها الباطنة أسرارا عجيبة تحير طوامح العقول وتدهش منها نواقب الأنظار والفهوم . فانظر إلى قوة الخيال بعرضيتها الغير المنقسمة كيف تطوى السماء والأرض وتتحرك من المغرب إلى المشرق في آن واحد ، وإلى قوة الوهم كيف تستنبط كثرة المعاني الجزئية في لحظة واحدة ، وتأخذها من حواق الأشياء ، وإلى المتخيلة كيف تركب بعضها بالبعض وتأخذ منها ما فيه الصلاح والرشاد في أمر المعاش والمعاد . ثم انظر في عجائب النفس وعالمها : من إحاطتها بالبدن كله وتدبيرها له ، مع تنزهها عن صقع المكان واتصافها بالعلم والقدرة وسائر الصفات الكمالية ، وتمكنها من الإحاطة على حقائق الأشياء بأسرها ، وتصرفها في الملك والملكوت بقوتها العقلية والعملية ، ومع ذلك عاجزة عن معرفة ذاتها وحقيقتها ، ومن تطوراتها في الأطوار المختلفة ، وتقلبها في النشآت المتباينة ، وترقياتها بحسب درجاتها ومقاماتها ، من لدن تعلقها بالنطفة القذرة إلى صيرورتها عالما ربانيا