كتاب الله بعضه ببعض ! انظروا فيما أمركم الله فافعلوا وما نهاكم عنه فانتهوا " فهذا تنبيه على منهج الحق . ثم لا ريب في أن نورانية اليقين ووضوحه ، بل واطمئنان القلب وسكونه لا يحصل من مجرد صنعة الجدل والكلام ، كما لا يحصل من محض التلقين وتقليد العوام . بل ( الأول ) - أعني الاستضاءة بنور اليقين - يتوقف على ملازمة الورع والتقوى ، وفطام النفس عن الهوى ، وإزالة كدرتها وصدأها : " وقد أفلح من زكاها " [20] . وتطهيرها عن ذمائم الصفات والاشتغال بمشاق الرياضة والمجاهدات ، حتى يقذف في قلبه نورا إلهي تنكشف به الحجب والأستار عن حقائق هذه العقائد ، وهو غاية مقصد الطالبين وقرة عيون الصديقين والمقربين ، وله درجات ومراتب ، والناس فيه مختلفون بحسب اختلافهم في القوة والاستعداد والسعي والاجتهاد ، كما هم مختلفون في إدراك أنواع العلوم والصنائع " وكل ميسر لما خلق له " [21] . وأما ( الثاني ) - أعني مجرد الاعتقاد الجازم الراسخ بظواهر تلك العقائد - فيمكن أن يحصل بما دون ذلك ، بأن يشتغل - بعد تلقين هذه العقائد والتصديق بها - بوظائف الطاعات ، ويصرف برهة من وقته في شرائف العبادات ، ويواظب على تفسير القرآن وتلاوته ، ودرس الحديث ودرايته ، ويحترز عن مخالطة أولي المذاهب الفاسدة وذوي الآراء الباطلة ، بل يجتنب كل الاجتناب عن مرافقة أرباب الهوى وأصحاب الشر والشقاء ، ويختار مصاحبة أهل الورع واليقين ، ومجالسة الأتقياء والصالحين ، ويلاحظ سيماهم وسيرتهم وهيئاتهم في الخضوع لله والاستكانة ، فيكون التلقين كإلقاء البذر في الصدر ، وهذه الأمور كالسقي والتربية له ، فينمو ذلك البذر بها ويتقوى ويزداد رسوخا ، حتى يرتفع شجرة طيبة راسخة أصلها ثابت وفرعها في السماء . ثم من وصل إلى مقام العقيدة الجازمة إن اشتغل بالشواغل الدنيوية ولم يشتغل بالرياضة والمجاهدة لم ينكشف له غيره ولكنه إذا مات مات مؤمنا على الحق
[20] الشمس ، الآية : 9 . [21] حديث نبوي مشهور ، تقدم ذكره صفحة " 26 " .