كنت أنظر من نافذة السيارة إلى الصحراء فأرى نفسي أقطع الطريق وما زال يرنُّ في أعماقي صوت المرحوم والدي ( رحمه الله ) : إذهب يا بني فقد وهبتك لله . . . وأتساءل : هل يهب الأب ابنه ؟ وأقول : تصح الهبة ، لأن الولد وما يملك لأبيه ، ولأنها هبة متفق عليها بين الأب والابن ! وأعود أفكر : ما معنى أني موهوب لله ؟ وأفهمها بأن أدرس جيداً ، وأخدم ديني مخلصاً ، فأقوم بتعليم الناس الإسلام ، ومذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) . لم يقطع تفكيري إلا تعزية الزوار الهنود ! كانوا مجموعة في المقاعد الأمامية ذاهبين إلى زيارة الأئمة ( عليهم السلام ) في العراق ، وأخذ أحدهم يقرأ لهم بالهندية بصوت هادئ ، حتى لا يعترض الركاب ، ثم قرأ شعراً حزيناً فردوه معه ، وهم يلطمون على صدورهم لطماً خفيفاً . لم أفهم كلامهم ، لكن أثر فيَّ هذا الحنان الهندي الرقيق الذائب ، المنساب في كلماتهم ، ونبراتهم ، ووجيب قلوبهم ، ودموع عيونهم ! جميلٌ أن ترى المشاعر العالمية تشاركك النبض بمودة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فكيف يعيش هؤلاء التشيع وولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في بلادهم وبيوتهم ؟ ! وقفت السيارة في الليل للاستراحة في آخر صحراء الأردن والعراق ، وكانت المنطقة مظلمة ، فيها مقهى ومطعم ليس فيهما من ذلك إلا الاسم ، والاسم عليهما كثير ، لأنك تحتاج إلى جهاد نفسك حتى تنظر إلى الظروف والكؤوس والشاي والطعام !