ولا أرى هذا الاحتمال إلاّ وقد صدر منه - طاب ثراه - على سبيل سلطان الجدل ، وإلزام المناظر ولو بما يقطع بخلافه . وكيف يحتمل مثله أنّ الشارع الَّذي عرف منه ذلك الاهتمام - الَّذي يجلّ عن الوصف - في حفظ أموال المسلمين ، وصيانة أعراضهم ، وحقن دمائهم يرفع ذلك الاهتمام بمجرد إقامة الدعوى من كاذب ، فلا يبالي بضياع الأموال ، ولا بهتك الأعراض ، وإراقة الدماء إذا شهد على أحدها بشهادة الزور ، أو صدر الحلف من حليف خمر وماخور [1] ، ويكون عنده سواء في الأموال المالك والغاصب ، وفي الفروج الزوج والعاهر ، وفي الدماء دم المسلم والحربي لا يكون هذا أبدا . ويبقى بعد ذلك موضع للسؤال عن معنى الإعراض عن الواقع على وجه لا يستلزم التصويب المحال ، ويكون غير الَّذي يتصور في سائر الأحكام [2] . هذا ، وأمّا ما ذكره من « أنّ الظنون المعمولة في تعيين طرق القضاء حاصلة من أمارات منضبطة غالب المطابقة » فالقضاء فيه موكول إلى الناظر بعد أن يتصفّح بابا من أبوابه . وأمّا ما ذكره في وجه عدم عمل المقلَّد بظنّه في نفس الحكم الواقعي ، فهو صحيح ، ولكن لا على إطلاقه ، إذ قد يكون اقتدار المقلَّد على تحصيل الظنّ بالواقع من نفس الطرق التي يحصّله [ بها ] [3] المجتهد أقوى من المجتهد ، كالأحكام التي مبانيها مسائل لغوية أو نحوية ، فلا شك أنّ المقلَّد اللغوي أو النحوي أشدّ اقتدارا ، وأصوب ظنّا ممّن يزيد عليه في الفقه ، ويقصر عنه في صناعته .
[1] الماخور : مجلس الفساق . الصحاح 2 : 812 مخر " . [2] ولهذا البحث تتمة تعرفها قريبا إن شاء الله . ( منه ) . [3] زيادة يقتضيها السياق .