ثانيها : أنّه بعد ما عرفت أن حجّية ما عدا القطع تحتاج إلى التعبّد الشرعي فاعلم أنّ الكلام في مقامين ، أحدهما : في إمكان التعبّد بما عدا القطع من الأمارات والأُصول ، والثاني : في وقوعه . والمراد من الإمكان ليس الإمكان الذاتي ، إذ لا إشكال في أنّ التعبّد بما عدا القطع أمرٌ ممكن ذاتاً ، بل المراد منه الإمكان الوقوعي بمعنى أنّه لا يلزم من وقوعه محذور ، وليس الإمكان بهذا المعنى أي الإمكان الوقوعي ، بل مطلقاً حتى الإمكان الذاتي أصل متبع عند العقلاء في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشكّ فيه ومنع حجيتها على تقدير ثبوتها ، لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها والظن به لو كان فالكلام الآن في اعتباره وإمكان التعبّد به . ومجرد الرجوع إلى الوجدان وعدم وجدان ما يوجب الاستحالة لا يكفي في الحكم بالإمكان ما لم نجد في أنفسنا ما يوجب الإمكان ، إذ عدم الوجدان أعمّ من عدم الوجود . وكلام الشيخ الرئيس [1] : " كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان " ليس في مقام أن الأصل في كلّ ما شكّ في إمكانه وامتناعه هو الإمكان كما هو المدّعى ، بل الإمكان في كلامه بمعنى الاحتمال العقلي ، لأنّ هذا الكلام صدر منه في مقام الموعظة والنصيحة بأنّه إذا سمعت أنّه صدر من شخص فعل خارق للعادة كالمعجزة والكرامة لا تبادر إلى إنكاره ، بل احتمل صدوره منه . فما في كلام الشيخ [2] ( قدس سره ) من أنّ الأصل عند الشكّ في الإمكان والامتناع هو الإمكان لا يخفى ما فيه ، مع أنّه لا حاجة لنا إلى إثبات أصالة الإمكان إلاّ من جهة ترتيب آثار الإمكان عند الشك ، ومعنى ترتيب أثر الإمكان على الشيء عند
[1] الإشارات والتنبيهات وشرحها : ج 3 ص 418 وفيه " فالصواب أن شرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان . [2] أُنظر فرائد الأُصول : في إمكان التعبّد بالظن عقلا ج 1 ص 40 .