راح يواصل حديثه ، حديث لم نألفه من قبل ، فلا هو توضيح وشرح لما نأخذ من دروس عن أساتذتنا . فقد كان حديثا تتخلَّله عبارات هي بالنسبة لنا غير مفهومة أو صعب فهمها ، ولأوّل مرّة سمعنا فيها كلمة الماركسيّة ، والإمبرياليّة ، والديالكتيكيّة ، والانتهازيّة ، وكلمات أخرى أظنها كانت تعني أسماء لفلاسفة وعلماء وشخصيات لم يحضرني منها سوى اسم ( فيكتورهوغو ) و ( غوته ) وغابت عني أكثرها ، إذ مر عليها زمن طويل قارب الأربعين عاما ، ولأنّها كلمات كانت في حينها يصعب علينا نطقها وتلفظها ، كانت غريبة علينا جدّا ولم نسمع بها أو بمثلها من الأسماء في كتبنا المدرسيّة ولم نقرأ فيها إلَّا ( إديسون ) و ( نيوتن ) وغيرهما ممّن درسنا عنهم وعن اكتشافاتهم واختراعاتهم . لقد كان يهيم في حديثه ويسبح في بحر من الخيال والتسامي ، أو يغوص في بحر لجي يلتقط منه العبارات والمعاني والأفكار . لقد حملنا شوقنا إلى المعرفة أن نكرّر انضمامنا إلى مجموعته التي أطلق عليها اسم ( الحوزة ) وكلَّنا نرغب رغبة ملحّة في أن نفهم ما يتحدّث به . ونحن لا ندري هل أنّ هؤلاء الصبية والأطفال المحيطين به يعون ويدركون ما يتحدّث به إليهم ويتفهّمون ذلك ؟ . وهذا ما كان يثير اهتمامنا بقدر ما كنّا نرغب في التزوّد من معارفه آنذاك والتي كنا نراها أشياء جديدة علينا ولكن فيها متعة ولذة وإن لم ندرك أكثرها ، وكنّا نستزيده فيزيد ، ونطلب منه أن يعيد علينا ما حدّثنا به قبل يوم فيجيب دون أن يلتمس لنفسه عذرا أو يقابلنا برفض . فقد كان همّه كلّ همّه أن نفهم وأن نعي ما يحدّثنا وكأنّه نذر ساعات لعبه وسهوه - وهو بهذا السنّ - ليكون معلَّما ومفقها ، واصلنا حضورنا حوزته هذه حتّى كانت نهاية العام ، وبدأت العطلة فافترقنا حيث التحقنا نحن في المدرسة المتوسطة ، وبقي هو في مدرسته قليلا حتى علمنا أنّه تركها لينصرف إلى الدرس . كانت أياما مضيئة وجميلة ، وكانت حلما حلوا مؤنسا أخذنا فيها عنه أشياء كثيرة ساعدتنا على أن نتفهم ما نقرأ من كتب غير كتبنا المدرسيّة ،