وهكذا فعل السيّد الشّهيد - ره - إذ سقاهم بواسطة خادمه ( الحاجّ عبّاس ) ماء باردا ، شربوه وهم يحتجزونه . وكأنّ حالة الصّفاء الموجودة لدى السيّد والمتركَّزة في أعماقه أثّرت - في فترة الاحتجاز - لا شعوريا بهؤلاء الذين يحتجزونه من حيث لا يعلمون ، إذ أنّ بعضهم أعدموا بسبب مواقف شجاعة وجريئة أقدموا عليها من أجل السيّد الشّهيد . لقد علمت بخبر إعدام بعضهم ، وكنت أعرف أسماءهم ، إذ كنت أسمع ما يجري بينهم من خلال النافذة ، وبعض الوسائل الأخرى فتعرّفت على جلَّهم ، وعندئذ أخبرت السيّد - ره - بأنّ فلانا أعدموه وفلانا أعدموه فذكَّرني بالقصّة السّابقة ، وقال : يجب أن تحمل في قلبك الرّحمة لكلّ مسلم ، فهذه هي رسالتنا . ومن المواقف التي لا زالت تؤثّر في نفسي ولن أنساها : هو أنّه بعد مضيّ مدّة من الحجز قامت السّلطة العميلة بقطع الماء والكهرباء والتّلفون ، ومنعت دخول وخروج أيّ إنسان إلى بيت السّيد حتى خادم السّيد ، وكانت هناك كمّية من المواد الغذائيّة موجودة في دار السيّد ، وهي كمية قليلة نفدت خلال مدة قصيرة ، ولم يبق عندنا إلَّا صندوق من الخبز اليابس التالف ، فبدأت عائلة السّيد ترتّب هذا الخبز اليابس كطعام شعبي ( يعرفه العراقيّون بالمثرودة ) وبقينا مدّة على هذا الحال ، وفي يوم من الأيّام كنت بخدمة السّيد الشّهيد ظهرا نتغدّى في ساحة البرّاني ، لاحظ السّيد الشّهيد في وجهي التّأثر والتّألَّم ، إذ كان يعزّ عليّ أن أرى هذا الرّجل العظيم على هذه الحال فقال لي : إنني واللَّه إنّ ألذّ طعام ذقته في حياتي هو هذا ، قلت : كيف ؟ قال : لأنه في سبيل اللَّه ومن أجل اللَّه . موقف آخر من المواقف العظيمة : حينما بدأ الاحتجاز وبعد شهر رمضان المبارك ، اتّصل هاتفيا مدير أمن النجف المجرم ( أبو سعد ) وطلب الاجتماع بالسيد ، وكان قد عاد قبل أيام من لندن وبعض العواصم الأوروبيّة ، لمّا دخل إلى منزل السّيد دخل خاسئا ذليلا وهو يحمل مشروعا لفكّ الحجز ، فقال في جملة ما قال : سيّدنا إنّ هؤلاء العراقيّين الَّذين في لندن وفي أوروبّا