ثم قال : إنّ معنى قولهم : إنّ الحرف ما دلّ على معنىً في غيره ، أو قائم بغيره ( 1 ) . هو أنّ المعنى الحرفي ليس له تقرّر وثبوت في حدّ نفسه ، كما كان للاسم ، بل معناه قائم بغيره ، نظير قيام العرض بمعروضه في وجوده الخارجي لا في هويّته . هذا مُرادهم بدلالة الحرف على معنىً في غيره ، لا أنّه ليس له معنىً ، بل هي علامة صِرفة . والفرق بين كون الحرف علامة صِرفة وبين كون معناه قائماً بغيره : هو أنّه بناء على العلامة يكون الحرف حاكياً عن معنىً في الغير متقرّر في وعائه ، نظير حكاية الرفع عن الفاعليّة الثابتة لزيد في حدّ نفسه مع قطع النظر عن الاستعمال . وأمّا بناء على كون معناه قائماً بغيره هو أنّه موجد لمعنىً في الغير لا حكاية المعنى القائم بالغير على ما سيجيء توضيحه ( 2 ) . وفيه : أنّه لو كانت المدركات العقليّة بسائط ، فكيف يصحّ الإخبار عن مثل زيد قائم ، فإنّها قضيّة ، والتصديق والحكم في القضايا يتوقّف على تصوّر الأطراف ، فلم تكن بسائط ؟ ! وواضح أنّ ماهيّة الإنسان مركّبة من الجنس والفصل ، ويدرك هما العقل بالتحليل العقلي ، بل غالب الأُمور إضافات ومركّبات ، فإنكار التركيب في جميع المدركات العقليّة إنكار للأمر الوجداني . ولعلّ منشأ توهم ذلك : هو قول أرباب المعقول : إنّ المعقولات مجرّدة عن المادّة والصورة ( 3 ) ، فتوهم أنّ مرادهم بذلك أنّها مجرّدة بسيطة ، مع أنّ مُرادهم بذلك هو أنّ المعقولات مجرّدة عن المادّة والصورة الخارجيّتين ، لا إنكار المادّة والصورة العقليتين
1 - نفس المصدر السابق . 2 - فوائد الأُصول 1 : 35 - 37 . 3 - اُنظر الحكمة المتعالية 3 : 284 - 290 .