موافقة قوله لفعله قدّس سره حيث لا يظنّ به المتوقف في الأوامر المجرّدة عن القرينة وأمّا حكمه على تقدير الإمكان والوقوع فقد اختلف فيه إلى أقوال ثلاثة أحدها ما ذهب إليه أبو حنيفة من الحمل على الحقيقة المرجوحة الثاني الحمل على المجاز الرّاجح وهو المحكي عن أبي يوسف والثالث التوقف وهو خيرة الأكثر ويمكن الاستدلال على الأوّل بما أشير إليه في وجه الامتناع من أنّ المقتضي وهو الوضع موجود والمانع غير معلوم أو مدفوع بالأصل فيجب الحكم بترتب المقتضى على المقتضي ويدفعه أنّ عدم العلم بالمانع غير كاف بل لا بدّ من إحراز العدم بالوجدان أو بالدّليل وهما مفقودان في المقام أمّا الأوّل فواضح وأمّا الثّاني فلأنّ الدّليل على عدم القرينة ليس إلَّا الأصل وهو غير ناهض في المقام بإثبات العدم لما سنحقّقه في الاستدلال على القول المختار وقد يجاب عن أصالة عدم القرينة بأن الشكّ في المقام شكّ في مانعيّة الموجود وهي الشّهرة فلا ينهض الأصل فيها أو في تعيين الحادث بعد العلم بوجوده للعلم الإجمالي بملاحظة المتكلَّم أحد الأمرين من الوضع أو الشّهرة وأصالة عدم ملاحظة أحدهما معارضة بأصالة عدم ملاحظة الآخر وضعفها ظاهر أمّا الأوّل فلأنّ أصالة العدم لا يفرق فيه بين الشكّ في وجود المانع أو مانعية الموجود وأمّا الثّاني فلأنّ استعمال اللَّفظ فيما وضع له لا يستدعي ملاحظة الوضع إجمالا أو تفصيلا بخلاف الاستعمال في المعنى المجازي كما سبق نعم تتم المعارضة عند من زعم أنّه لا بدّ في الموضوع له من ملاحظة الوضع ويستدلّ على الثاني بأنّ اللَّفظ مع ملاحظة الشهرة تكون ظاهرة عرفا في معناه المجازي فتندرج تحت الظَّواهر اللَّفظية الَّتي لا إشكال في وجوب متابعتها شرعا وعرفا ويرد عليه أنّه مصادرة واضحة إذ الخطب في كون المعنى المجازي من الظَّواهر الثانوية كالأمر الواقع عقيب الحظر في الإباحة بالمعنى الأعمّ فإنّا ندعي أنّ اللَّفظ إذا غلب عليه الاستعمالات المجازية اندرج تحت المجملات العرفية باعتبار مصادمة الظهور النّاشئ من الشّهرة للظَّهور النّاشئ من الوضع وأصالة عدم الصّارف ومن هنا يظهر أنّ المختار هو القول الثّالث المشهور الَّذي عليه المحقّقون أمّا أوّلا فلما ذكره القوم من تعارض الظَّهورين وتساقطهما وأمّا ثانيا فلما مرّ في ردّ القول الأوّل وحاصله ومرجعه إلى أن أصالة الحقيقة إنّما يعتبر عرفا إذا لم يكن مع اللَّفظ حال صدوره ما يصلح كونه قرينة صارفة فإنّها حينئذ تصير موهونة والأصل في ذلك أن مجرّد الوضع لا يكفي في حمل اللَّفظ على الحقيقة مع الشكّ في القرينة بل لا بدّ أن يكون للَّفظ ظهور نوعيّ عرفي في إرادة المعنى الحقيقي وهو إنّما يكون إذا كان اللَّفظ في حين صدوره مقرونا بعدم المانع الَّذي هو القرينة ثم طرأ الشكّ في وجود المانع وأمّا إذا كان مقرونا في حال صدوره بما يحتمل مانعيته فلا ظهور له والسّر في ذلك أنّ أصالة عدم المانع في الأوّل أمارة نوعيّة عند العقلاء دون الثّاني ومن أجل ذلك يسري إجمال المخصّص إلى العام فيجعله مجملا اتّفاقا وممّا ذكرنا يظهر وجه التوقف في مسألة الاستثناء المتعقب بالجمل وأشباهه كما يأتي إن شاء الله تعالى فإن قلت ما ذكرت من عدم وجوب الحمل على الحقيقة عند الشكّ في مانعيّة شيء مقرون باللَّفظ لو تمّ فإنّما يتمّ فيما إذا كان الأمر المحتمل كونه قرينة لفظا موجودا في الكلام وأمّا غيره من الأمور الخارجية كالشهرة وقرائن الأحوال ففتح هذا الباب فيها يوجب سدّ باب الاستدلال بالأدلَّة اللَّفظية الشرعيّة إذ ما من خطاب إلَّا وهو محفوف بحال أو مقال يحتمل كونه مانعا عن الحمل على الحقيقة فلو بني على إجمال كلّ خطاب مقرون بما يحتمل كونه مانعا استحال الاستفادة من غير الخطابات الشّفاهيّة مضافا إلى أنّ هذا هو الَّذي أنكرت عليه في إبطال ما أجيب به عن دليل القول الأوّل قلنا ما ذكرنا إنّما هو فيما إذا علم بصلاحية المقرون بالخطاب لكونه مانعا وقرينة صارفة كالشّهرة فيما نحن فيه والاستثناء فيما إذا تعقب جملا متعدّدة فلا يجري مع الشّك في أصل الصلاحيّة وتلخيص ما حقّقنا أنّ الشكّ في القرينة الصّارفة يتصوّر على وجوه ثلاثة الأول أن يعلم بصدور اللَّفظ عاريا عن جميع القرائن وشكّ في وجود القرينة المنفصلة عن الخطاب والثّاني أن يشكّ في وجود القرينة باعتبار الشكّ في صلاحية ما يقارنه من الأحوال والأقوال وغيرهما للصروف الثالث أن يشكّ في وجودها باعتبار الشكّ في اتكال المتكلَّم عليها مع إحراز صلاحيتها للتعويل كالشهرة فيما نحن فيه وتوهم الحظر في الأمر الواقع عقيبه واعتبار أصالة عدم القرينة فالعرف والظَّهور اللَّفظي إنّما يسلَّمان في الأوّلين دون الثالث والفرق هو أن قابليّة الخطاب لإفادة المعنى المجازي غير محرزة في الأوّلين محرزة في الثالث ومن الواضح أن إحراز صلاحية المقام لإرادة كلّ من الحقيقة والمجاز ممّا يمنع عن حصول الظنّ من أصالة العدم ولو شأنا بخلاف ما لو كانت أصل الصّلاحيّة مشكوكة فافهم والفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل هو أنّ ظهور اللَّفظ في إرادة المعنى الحقيقي مسلَّم على الأوّل ولكنه معارض بالظَّهور الناشئ من الشهرة وغلبة الاستعمال في المعنى المجازي وممنوع على الثاني ومنه يظهر أولوية هذا الوجه عن الأوّل لأنّ الظهور اللَّفظي على تقدير تسليمه لا يعارضه الظَّهورات الأخر الحاصلة من غير ظواهر الألفاظ كالغلبة ونحوها وكذا لا يتوقف في العمل بالعام مع شيوع التخصيص وغلبته إلى أن قالوا ما من عام إلَّا وقد خصّ كما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى ولا يذهب عليك أن هذا لا يرجع إلى القول بإناطة حجيّة ظواهر الألفاظ بالظنّ الفعلي أو بعدم الظَّن بالخلاف حتّى لو ظنّ بالقرينة أو بالمعارض سقطت عن الاعتبار بل إلى اشتراط اعتبارها بالظنّ النوعي