الحجّية قاصر لشمول المتعارضين لاستحالة الجمع بين المتناقضين وقد يقال إن مقتضى إطلاق دليل الحجّية وجوب العمل بهما معا وحيث تعذّر ذلك تعين العمل بأحدهما مخيّرا كما في تزاحم الواجبات وفيه أنّ مع تعذّر العمل بهما معا كيف يشملهما إطلاق الدّليل القاضي بوجوب التعيين وصرفه إلى الوجوب التخييري ممتنع أيضا بعد فرض كون المراد به الوجوب التعييني في صورة عدم المعارضة لأنّه مثل استعمال اللَّفظ في المعنيين بل أقبح كما هو واضح للبصير وقد يقال إنّ هذا مبني على تعلَّق التكاليف بالأفراد فلو قلنا إن متعلَّقها الطَّبائع اتجه التخيير العقلي لأنّ مدلول دليل الحجية على هذا القول إنّما هو الوجوب التعييني المتعلَّق بطبيعة خبر العدل وتعلَّقه بالفرد تعلَّق مقدّمي لا يتعلَّق إلَّا بالمقدور فالاختلاف في التخيير والتعيين إنّما هو جاء هو من اختلاف الأفراد في قابلية الاتّصاف بالوجوب التعييني والتخييري ففي صورة عدم المعارض يتصف بالوجوب التعييني من باب المقدّمة وفي صورة المعارضة يتصف بالوجوب التخييري وفيه أنّه غلط واضح وخلط لائح بين العموم البدلي والعموم الاستغراقي في مسألة متعلَّق التكاليف فإنّ النزاع المعروف من أنّها يتعلَّق بالمهية أو بالفرد إنّما هو في الأوّل دون الثاني وما نحن فيه إنّما هو الثاني لأنّ المفروض حجّية جميع أفراد الخبر ووجوب العمل بكلّ فرد منه متميزا ولا مساس لذلك بالمقام وأمثاله من الأحكام العامة المستغرقة لحكم الوضع أو بقرينة المقام فإن قلت فكيف يحكم بالتخيير في تزاحم الواجبين كتزاحم الغريقين أو دينين ونحوهما قلت نحكم فيه بالتخيير من باب المناط العقلي بعد إحراز كون كلّ من الواجبين مقتضيا في نظر الشارع للتكليف لا من نفس خطاب ذلك الواجب كيف وهو غير جائز بناء على عدم جوازه في المعيّن حسبما عرفت فإن قلت فلم لا يتعقل كذلك في تعارض الخبرين فكما يجوز لك أن تقول إن إنقاذ الغريق مطلوب شرعا مهما أمكن سواء وقع المزاحمة بين فردين أو أفراد منه أو لا فكذلك يجوز لنا أن نقول مثل ذلك في الخبرين قلت أوّلا إنّ موضوع حكم العقل هناك محرز بحكم الفرض وهو وجوب الإنقاذ عند الإمكان لأنّا لا نحكم بالتخيير العقلي إلَّا بعد ثبوت ذلك المناط بأن علمنا من دليل ذلك أو من الخارج أو من الإجماع أن المزاحمة لا يؤثر في المطلوبيّة والمحبوبية عند الشارع وأن صفة الإنقاذ مقتضية للوجوب مهما أمكن وحينئذ يحكم العقل بالتخيير لأنّه غير معذور في ترك الكلّ بحيث كان قادرا على الإنقاذ في الجملة وليس لأحدهما مرجح على الآخر وأمّا هنا فلم يحرز موضوع الحكم لا من دليله ولا من الخارج ولا من الإجماع فلا بدّ من الرّجوع إلى الأصل وثانيا أنّ الفرق بين المقامين واضح لأنّ مزاحمة الواجبات يرجع إلى تزاحم المصلحتين النفسيّتين ضرورة ثبوت المصلحة في نفس الواجب من غير أن يكون مطلوبا مقدّميا للغير والمراد بالمصلحة هو الغرض الباعث على التكليف فلا يتوقف التخيير في التزاحم على مسألة الحسن والقبح بخلاف تعارض الطريقين فإنّ المصلحة الباعثة على جعله حجّة هو الإيصال إلى الواقع وهذا الغرض غير موجود في كليهما حتى يحكم العقل بوجود المقتضي في كلّ منهما ومن الجائز اختصاص المصلحة الباعثة على العمل بغير صورة المعارضة فإن قلت مصلحة الفعل موجودة في أحدهما المعيّن عند اللَّه وإن لم نعلم به ومقتضاه البناء على حجّية أحدهما دون التساقط وعدم حجّية شيء منهما فيكون من باب اشتباه الحجّة بلا حجّة قلت أولا وجود مصلحة الفعل في أحدهما المعيّن عند اللَّه أوّل الكلام إذ من المحتمل اشتراط حجّيته عند اللَّه بعدم المعارضة وهذا الاحتمال لا دافع له لا من طريق اللَّفظ نظرا إلى عدم شموله للمتعارضين حسبما مرّ ولا من طريق العقل لعدم مانع منه عقلا لإمكان أن يكون حجّية مشروطة بعدم المعارضة وهذا بخلاف تزاحم الواجبات والتكاليف النفسيّة فإنّها واجبات نفسيّة مصالح تشريعها في ذواتها بعد استجماع سائر الشّرائط غير المزاحمة وقضية ذلك عقلا وجوب امتثالهما بقدر الميسور وعدم سقوطه بالمعسور والحاصل أنّ مقتضى المطلوبيّة النفسيّة كون المزاحمة مانعة من وجوب الامتثال بكلّ منهما عينا لا كون عدمها شرطا لأصل المحبوبيّة والمطلوبيّة بخلاف المطلوبيّة الغيريّة فإنّها محتملة لأن تكون مثل التكاليف النفسية في كون المزاحمة مانعة عن الامتثال لا كون عدمها شرطا في المطلوبيّة ويحتمل أن لا يكون كذلك بأن يكون أصل المطلوبية مشروطا بعدم المعارضة كما يساعده الذوق السّليم والاعتبار الصّحيح فإن حكمة وجوب العمل بقول العدل مثلا إذا كانت صرف الطَّريقية كان الأحرى سقوطهما عن الاعتبار عند المعارضة كسقوط اعتباره مع العلم التفصيلي بخلافه فإذا جاء الاحتمال ولم يكن له دافع لا من اللَّفظ ولا من العقل فمن أين يستقلّ العقل بوجود مقتضى العمل في كلّ منهما عند المعارضة حتّى يحكم بالتخيير وثانيا أنّ وجود المصلحة في أحدهما المعيّن واقعا لا يقتضي بالتخيير بل مقتضاه التوقف أيضا والرجوع إلى التخيير واضح شناعته لكونه خلاف التحقيق نظرا إلى أن الإيصال إلى الواقع حكمة لجعله حجّة لا علَّة حتى يحكم بأنّ المطابق منهما للواقع واجد لمصلحة الجعل لا أنّ مقتضاه حصر الحجّية على كلّ خبر مطابق للواقع وفساده واضح ضرورة عدم الملازمة بين الحجّية وإصابة الواقع بل الحجّية ثابتة لكل خبر محتمل للمطابقة وهذا العنوان يصدق على كلّ واحد من المتعارضين فلا بدّ من الالتزام بحجّيتهما معا أو بعدم حجيتهما كذلك