الأصل قلت وهذا التحقيق من نفيس فوائده ولعمري إنّه يليق به الافتخار على كافة ذوي الأفكار لكن أنظارنا قاصرة عن إدراك هويّته وأفئدتنا حائرة عن الإحاطة بحقيقته لأنّ أصالة عدم القرينة طريق عقلائي إلى الواقع كسائر الطرق العقلائية وليس مثل الأصول التعبّدية المجعولة حتّى يكون ما دلّ على اعتبار الدّليل الظَّني حاكما عليه فكلّ منهما طريق إلى الواقع معتبر شرعا إمّا إمضاء لبناء العقلاء أو نسيانا من قبل الشارع ولا حكومة في الطرق المتعارضة إلَّا أن يكون أحدهما مفسّر الموضوع الآخر كحكومة أدلَّة نفي الضّرر على أدلَّة الأحكام وليس الأمر في المقام كذلك كما لا يخفى وأمّا ما ذكره على تقدير كون اعتبار أصالة الحقيقة من باب الظهور النوعي من ورود الدّليل الدّال على التعبّد بصدور النّص عليه فإن تمّ فهو الجواب على التقديرين لكنّه لا يتمّ لأنّ التعليق ثابت من الجانبين حيث إن اعتبار الأدلَّة الظنّية بناء على الطريقية موقوف على عدم المعارض فكما أنّ الظهور اللَّفظي معلَّق على عدم الدّليل على القرينة فكذلك اعتبار سند المخصّص أيضا معلَّق على عدم المعارض وقد عرفت أنّ ظاهر العام معارض للمخصّص لأنّه يدلّ على وجوب إكرام زيد العالم مثلا والمخصّص يدلّ على عدم وجوبه فيكون وجوب إكرامه ممّا تعارض فيه الدليلان ولا حكومة ولا ورود بينهما بل كلّ منهما في عرض الآخر قد تعارضا في حكم الخاص والشكّ في كلّ منهما مسبّب عمّا هو المجعول شرعا في حقّه وهذا نظير تعارض العامين في كون الشكّ في كلّ منهما مسبّبا عن أمر ثالث وهو الشكّ في حكمه الشرعي والحاصل أنّ ظاهر العام دليل اجتهاديّ على ثبوت حكمه في الخاص وليس مثل أصل البراءة ونحوه من الأصول العملية والمخصّص أيضا دليل اجتهادي على عدم ثبوته فيه أو ثبوت حكم آخر مضاد لحكم العام واعتبار كلّ منهما معلَّق على عدم الآخر بناء على ما حققناه وما قاله قدّس سره من كون الأصل في تعارض الأدلَّة التساقط فإن كان المخصّص قطعيّا من جميع الجهات قدّم على العام قطعا وإن كان ظنيا دلالة أو سندا وقع المعارضة بينه وبين ظاهر العام فمقتضى ذلك الأصل المقرّر التوقف والتساقط وتقديم الخاص الظني من إحدى الجهتين على العام معيّنا بدعوى الحكومة أو الورود غير واضحة ولا موضحة بعد ما عرفت من كون التعليق في الاعتبار ثابت من الجانبين والَّذي خلج بالخاطر الفاتر في تقديم الخاصّ الظنّي على العام هو أن ظنية الخاصّ إن كانت في الدلالة فيأتي الكلام فيه إن شاء اللَّه تعالى في تعارض الظاهر والأظهر وإن كانت في السّند كما هو المقصود في المقام تعيّن العمل بالخاص أيضا لأن دليل اعتبار سنده سليم عن المعارض وبعد وجوب التعبّد به يتعيّن التخصيص به إذ لا معنى للتعبّد به سوى الالتزام بآثار صدوره ولوازمه وقد عرفت أنّ من لوازم صدور الخاصّ بعد العام رفع اليد عن حكم العامّ وهذا الأثر وإن لم يكن حكما شرعيّا بل حكما عقليّا نظرا إلى أنّ صدور الخاصّ بعد العام يفيد القطع بخروجه عن مراد المتكلَّم عقلا لا شرعا لكن الطَّرق الشرعية ناهضة بإثبات الأحكام الشرعيّة ولو كانت بوسائط عقلية وليست كالأصول في عدم جواز كونها مثبتة وأمّا سلامته عن المعارض فلعدم الدليل على اعتبار أصالة العموم هنا رأسا لأنّ دليله المعتبر هو الإجماع ولا إجماع هنا على اعتبارها لو لم يكن الإجماع على عدمه فإن قلت كما لا إجماع على أصالة العموم هنا كذلك لا إجماع على اعتبار الخبر المخصّص الظنّي أيضا قلنا إنّ اعتبار الخبر ثابتة بالأدلَّة اللَّفظية فيستدلّ بعمومه في المقام نعم لو كان دليله الإجماع أيضا اتّجه القول بالتوقف أو تقديم العام فلذا أنكر المرتضى رضي اللَّه عنه تخصيص الكتاب بخبر الواحد مستدلَّا بأنّ القدر الثابت من حجيّة خبر الواحد لو قلنا به هو ما إذا لم يكن معارضا لعموم الكتاب والحاصل أنّ حجيّة الخبر المخصّص ثابتة بالأدلَّة الشرعية ويمكن دعوى عموم بعضها هنا بخلاف حجيّة ظواهر الألفاظ فإنّها إنّما تثبت للإجماع العملي فحيث حصل الرّيب واختلاف الأنظار سقط عن الاعتبار ودعوى اعتبار ظواهر الألفاظ ببناء العقلاء مدفوعة بأنّ الاعتماد على بناء العقلاء في طرق الأحكام الشرعية من غير أن ينتهي إلى الإجماع عندنا مشكل بل ممنوع إذ لا دليل عليه ولا أثر له في كلام العلماء قديما وحديثا إلَّا في هذه الأعصار وما يقارنها وأوّل من أشاع حجّية بناء العقلاء فيما عثرنا عليه هو بعض مشايخ مشايخنا قدّس سرهم وقصوى ما استدلّ أو يستدلّ على اعتباره أنّ استقرار طريقة العقلاء في معرفة أغراضهم على شيء من الظنون مع عدم ردع الشارع عنه يكشف عن رضائه بالاعتماد عليه في معرفة أغراضه وطريق الإيصال بأحكامه أيضا لأنّ الإنسان مجبول على المشي بمقتضى طبائعهم خصوصا مع إطباق كافة العقلاء عليه وفي مثله لا بدّ من البيان الرّادع وإلَّا لزم الإغراء بالجهل وتأخير البيان عن وقت الحاجة وقبحه واضح وفيه أوّلا أنّه حسن لو لا النواهي الرادعة عن العمل بالظنّ فمع الدلالة على الرّدع كتابا وسنّة لا وجه للاعتماد عليه مع كونه ظنا لا يغني من الحقّ شيئا نعم لو قام الإجماع عليه عملا أو قولا بطل حكم النّواهي وتعيّن خروج ذلك الظن عنها لكونها بمرأى منهم ومسمع بحيث لا يحتمل خفاؤها عليهم فلو كان فيها ردع عن العمل به لذكروه كلَّا أو بعضا ولم يطبقوا على العمل به وثانيا أنّه ليس عند العقلاء دليل تعبّدي حتّى نقول إنّ العمل