إلى ذلك - كما أشار إليه الشيخ الأنصاري - صاحبُ شرح الوافية السيّد جمال الدِّين . لذا نجد أنّ البحراني صاحب الحدائق قدّس سرّه في الدرر النجفيّة في درّة عَقَدها لبحث أصالة البراءة الأصليّة ، وتكلّم عنها بالمعنى الذي يناسب مع كونها دليلاً ، وناقش في ذلك وأبطل كونها كذلك ، قال : لأجل هذا ذهب بعض فضلاء متأخِّري المتأخِّرين إلى أنّ أصالة البراءة مرجعها إلى نفي تكليف اجتناب الحكم لا إلى كونها دليلاً على نفي الحكم . وعبارته : « فعدم الاطّلاع عليه لا يدلّ على العدم ، نعم يرجع الكلام إلى عدم ثبوت التكليف بالحكم بعدم الوقوف على الدليل ، فيصير حجّية البراءة من هذا القبيل » [1] . وكيفما كان ، فإن تحدّد هذا المفهوم الذي عندنا الآن بشكل دقيق ، كان على يد الأستاذ الوحيد البهبهاني قدّس سرّه ومدرسته خصوصاً الشيخ محمّد تقي صاحب الحاشية ، ثمّ بعد ذلك على يد الشيخ الأنصاري قدّس سرّه وبلغ تحقيقه بيده الشريفة إلى الغاية التي بلغ إليها اليوم من حيث الدقّة والعمق . فأصبح الأصل العملي - بحسب هذا التحديد - عبارة عن وظيفة عمليّة لا يطلب فيها الفقيه العلم بالحكم الشرعيّ الواقعي ولا الظنّ بذلك ، بل يطلب فيها بيان الوظيفة العمليّة التي يخرج بها عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال . وهذه أحد العوامل التي دعت الشهيد الصدر إلى أن يجعل ظهور الوحيد البهبهاني وما تلاه عصراً ثالثاً من عصور تطوّر علم الأصول . فإنّ تحدّد فكرة الأصل في قبال فكرة الدليل ، يعتبر ركناً أساسيّاً في عملية الاستنباط ، وهو من المظاهر الرئيسيّة في هذا العصر .
[1] الدرر النجفيّة ، لمؤلّفه : العلاّمة المحدِّث الشيخ يوسف بن أحمد البحراني رحمه الله ، الطبعة الحجريّة ، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث : ص 26 ، س 11 .