وقهرها, ويعرض بالكلّية عن
الأفكار المجازية الراجعة إلى الأمور الفانية, ويتوجه بشراشره([661]) إلى المطلب الحقيقي, ويترصد السوانح([662]) الغيبية والواردات القدسية، وهو المعنيّ
بالتفكّر المرغّب فيه بقوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ([663]) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة([664]) وإلى ما ذكرنا مفصّلاً أشار مجملاً بقوله: ويضعف
حواسّه وقواه التي بها يدرك الأمور الفانية, ويحبس ـ بالرياضة([665]) ـ نفسه
[661]
الشراشر: الأثقال, الواحدة شرشرة. يقال: ألقى عليه شراشره, أي نفسه, حرصاً ومحبة.
الصحاح للجوهري:2/696, شرر.
[662]
السوانح: هي العوارض أو الحوادث السماوية. اُنظر: لسان العرب لابن منظور:2/491
مادة, سنح.
[664]
وردت هذه الرواية في مصادرنا على لفظين: الأول: عن الحسن الصيقل قال:قلت لأبي عبد
الله عليه السلام: تفكّر ساعة خير من قيام ليلة؟ قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
تفكّر ساعة خير من قيام ليلة.
قلتُ: كيف يتفكّر ؟ قال: يمرّ
بالدار والخربة فيقول: أين بانوك ِ؟ أين ساكنوكِ ؟ مالك لا تتكلّمين؟. المحاسن للبرقي:1/26. كتاب الزهد للحسين بن
سعيد الكوفي:15. مشكاة الأنوار للطبرسي:81. ورواه الكليني في الكافي:2/54 باختلاف
يسير.
الثاني: عن أبي
العباس, عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تفكّر ساعة خير من عبادة سنة، قال الله: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَْلْبابِ الزمر 39: 9. تفسير العياشي:2/208.
ومن كتب العامّة في
:مفاتيح الغيب للرازي:2/407، بفارق عبارة ستين بدل سبعين. طبقات الأولياء لإبن الملقن:1/25، وغيرها من مصادرهم وبألفاظٍ
شتى.
[665] في حاشية ذ: من شرح الشيخ داوود بن أبي شافين (أ) قال: ومنهم من جعل الرياضة حبس النفس عن متابعة هواها,
وقصرها على طاعة مولاها, ويظهر من كلام المصنّف أنّ هذا الحبس مسبّب عن الرياضة,
بقوله: ويحبس بالرياضة نفسه الأمّارة. وحينئذٍ فالرياضة تذليل النفس, بحيث تصير
مسلِّمة للعقل, منقادة للطاعة في اقتناء الكمالات العلمية والعملية, راضية مطمئنة,
كما قال سيد الأوصياء: لأروّضنّ نفسي رياضة
تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً, وتقنع بالملح مأدوماً(ب) والرياضة ـ على المعنيين ـ لا تقع إلّا بصبر
عظيم, مقترن بتصور غاية خطيرة, ومحبّة صادقة, ناشئة عن كمال معرفة, فإنّ من لا
يتصور كمال الغاية لا يصبر في نيلها على تمام المشقّة, ومن لا يعرف لا يحب ولا
يصبر على تحمّل الآلام في نيل قربه, وهذا الصبر يسهل بملاحظة الفناء لهذه
المشتهيات المانعة من قربه تعالى, فإنّها في نفسها كثرة مشعرة بالعدم؛ لتألّفها من
أمور لا نفع إلّا بها وتُعدم بواحدة منها, ولا تزال في الإنقطاع, كما قال سيد
الأولياء: إنَّكم لن تنالوا منها لذّة إلّا بفراق أُخرى(ج)؛ لعدم اجتماع الأمثال, وبعدها حسرة وندامة
لا يمكن استدراكها كَذلِكَ يُرِيهِمُ
الله أَعْمالَهمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ سورة البقرة 2: 167, ثمّ قَسّم النفس بحسب
حالاتها الثلاث, ثمّ قال: وهذه الحال لا تقع إلّا بقطع العلائق الدنيّة, ودفع
الموانع الدنيويّة, وإضعاف القوى والحواس المدركة للأمور الفانية العدمية,
والتأدّب بسوط التخويف, ومن الناس من لا يلاحظ إلّا استحقاقه تعالى للتعظيم, ولا
يلاحظ ـ في طاعته ـ خوفاً من عذاب أليم, ولا رغبة في جنة نعيم, كما قال سيد
الأولياء: ما عبدتك خوفاً من نارك, ولا طمعاً في جنّتك,
ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك(د) جعلنا الله وإيّاكم من السالكين لهذا المنهج العظيم
آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
( أ ): الشيخ داوود
بن محمد بن أبي طالب الشهير بابن أبي شافين –وفي بعض المصادر: شافيز - الجد حفصي
البحراني، قال العلامة الأميني: كان من العلماء الكبار, واحد عصره في الفنون كلها,
وله في علوم الأدب اليد الطولى وقصائده مشهورة, وكان حاذقاً في علم المناظرة وآداب
البحث, وهو الذي تصدّى لمباحثة العلّامة الشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ
البهائي لـمّا قدم البحرين. له شرح على الفصول النصيرية في التوحيد, ورسالة في
المنطق وجيزة, وقصائد في رثاء الإمام الحسين عليه السلام مشهورة. توفي سنة 1020هـ
تقريباً. اُنظر: علماء البحرين للشيخ سليمان الماحوزي:71, (ضمن فهرست آل بابويه) أنوار
البدرين للشيخ علي البلادي:71, ترجمة 13 الغدير للشيخ الأميني: 11/233ـ237. أمل
الآمل للحر العاملي2/113, 318. أعيان الشيعة10: 191/6369.
(ب): نهج البلاغة
للشريف الرضي:74, من كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري, عامله على
البصرة.
(ج): نهج البلاغة
للشريف الرضي:202, من خطبة له عليه السلام في فناء الدنيا, ونص العبارة هكذا: لاتنالون منها نعمة إلّا بفراق أخرى ووردت بصورٍ أخرى، ولكن ليس كما في الحاشية.
(د): شرح المائة كلمة
لأمير المؤمنين عليه السلام لإبن ميثم البحراني:219 باختلافٍ في بعض الألفاظ. شرح
نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي:10/157 باختلافٍ واختصار.