بل إن القرآن الكريم
دعا إلى بذل كل الجهود لتحصيل جميع أنواع القوى، ويدخل فيها هذا النوع من أنواع
القوى، قوة الصناعة والسياسة، فقال:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾
(لأنفال: 60)
وقد جاءت التعاليم
النبوية الكثيرة تعمق هذه المفاهيم القرآنية، وترسخها، وتربي الأجيال عليها، فقد
كان (ص) حريصا على أن يمارس
أصحابه أي حرفة حتى لا يقعوا فريسة لأي نوع من أنواع العبودية:
جاء رجل من الأنصار
إلى النبي (ص) فسأله فقال: أما في
بيتك شيء؟ فقال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه الماء، فقال: ائتني
بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله (ص) بيده فقال: من يشتري هذين؟ فقال رجل:
أنا آخذهما بدرهم، فقال رسول الله (ص):(من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا؟)، فقال رجل: أنا أخذهما بدرهمين،
فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه
إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فائتني به، فلما أتاه به شد فيه رسول الله (ص) عودا بيده، ثم قال:(اذهب
فاحتطب، وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما)، ففعل وجاء فأصاب عشرة دراهم، فاشترى
ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله (ص):(هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في
وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع، ولذي غرم مفظع،
ولذي دم موجع)([605])
بل اعتبر النبي (ص) العمل والكسب نوعا
من الجهاد في سبيل الله، فقال:(أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله،
والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله)([606])
ورأى بعض الصحابة
شاباً قوياً يسرع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول الله (ص) عليهم بقوله:(لا
تقولوا هذا ؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج
يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها
فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)([607])
وهكذا صار العمل
عبودية خالصة لله.. بل جهاد في سبيل الله.. وهو جهاد مستمر أمرنا (ص) أن نداوم عليه إلى
آخر لحظة