سكت قليلا، ثم
توجه برقة إلى الجمع المحيط به، وقال: سادتي.. هل تعلمون أحدًا علَّم مثل هذا
التعليم؛ فسوَّى بين الهداة من جميع المِلَل والنِّحَل؛ في إعظامهم وإكرامهم،
والأدب معهم، والاعتراف بجميلهم، وتصديقهم فيما دَعَوا إليه من حَقٍّ؟
وأين ترون مثل هذِهِ
الروحانية العامة والإخاء الشامل؟
أجبيوني بصِدْق: أليس هذا
من الرحمة العالمية التي جاء بها محمد؛ حيث علَّم الناس كيف يرعون شرف الهداة
وعظمة حملة الرسالات الإلهية؛ فعمَّت دعوته واتسعت رحمته؛ حتى نال كل شَعب من
شُعوب البشر وكل أسرة من أسرهم نصيبًا من ذلك؟
قال رجل من الجمع: لقد
عرفت إذن بأن التعاليم التي جاء بها محمد هي أكمل التعاليم وأوفاها وأولاها
بالاتباع.. فهل اكتفى عقلك بذلك، فصرت تعتقد بأن محمدا هو وسيط الهداية بين الله
وبين عباده، وبأنه النموذج الأكمل للإنسان، وأن الإنسان لن يصير إنسانا إلا
باتباعه.
قال: لا.. لم أكتف بذلك..
لقد بدأت البحث من جديد.. فتركت كل ما وصلت إليه من تلك الثروة الضخمة من التعاليم
العظيمة التي جاء بها محمد..
لقد قلت لنفسي، أو قال لي
عقلي: ربما يكون كل ما جاء به محمد نفحة من نفحات العبقرية.. أو حصاد من زرع
الذكاء..
قال الرجل: فكيف تخلصت من
هذا الهاجس.. وهو لا يمكن أن يتخلص منه؟
قال: لقد قال لي عقلي:
ابحث في سيرة هذا الذي دعا إلى تلك التعاليم.. وانظر هل يخالف قوله فعله.. أم أن
قوله وفعله يصدران من مشكاة واحدة؟
وقال لي: ليست الأفكار
الصحيحة، والنظريات الشائقة، والأقوال الحسنة؛ هي الَّتِي تجعل الإنسان إنسانًا
كاملًا، وتجعل من حياته أسوة للناس، ومثلًا أعلَى في الحياة؛ بل أعمال الداعي
وأخلاقه هي الَّتِي تجعله كذلك.. ولولا ذلك؛ لما كان هناك فرق بين الخير والشرّ،
ولما تميّز المصلِح عن غيره، ولامتلأت الدنيا بالثّرثارين والمُتفيهقين الَّذِي
يقولون ما لا يفعلون.
وقال لي: إن الحياة
المثالية لن تكون أسوة للناس ما لم تكن أعمال صاحبها ـ الَّذِي يؤسّس دينًا ويدعو
الناس إليه ـ مثالًا وأنموذجًا لما يدعو إليه، ولا يتطرّق الشك إلَى الناس بأن ما
يدعو إليه هو مما يعمل به.