لم يسهل عليهم ترك
سيدهم أثناء نجاحه الباهر، وانتشار صيته، خصوصا بعد أن ظهر لهم أن باب العظمة
العالمية، والثروة الزمنية، قد فتح أمامهم، وإن كان المسيح قد صرفهم بشيء من
العنف، لأنهم رفضوا فكره، نراه يتبع العنف باللطف، لأن البشير يذكر صريحا أنه
ودعهم. ومع أنه سيفترق عنهم ساعات قليلة فإنه يودعهم وداعا حبيا يحقق لهم به
عواطفه الحارة نحوهم.
وكان رد فعل المسيح الثاني أنه صرف
الجمهور.
وكانت خطوته الثالثة انصرافه هو، وصعوده
منفردا إلى الجبل ليصلي، وما أكثر المرات التي كان فيها يختلي للصلاة.
لقد ورد في محل آخر من الكتاب المقدس أنه
قام بإطعام أربعة آلاف وثني.. اسمعوا ما جاء في الكتاب المقدس.
فتح الكتاب المقدس وراح يقرأ: (في تلك الأيام إذ كان
الجمع كثيرا جدا، ولم يكن لهم ما يأكلون، دعا يسوع تلاميذه وقال لهم: (إني أشفق
على الجمع، لأن الآن لهم ثلاثة أيام يمكثون معي، وليس لهم ما يأكلون، وإن صرفتهم
إلى بيوتهم صائمين يخورون في الطريق، لأن قوما منهم جاءوا من بعيد). فأجابه
تلاميذه: (من أين يستطيع أحد أن يشبع هٰؤلاء خبزا هنا في البرية؟) فسألهم: (كم
عندكم من الخبز؟) فقالوا: (سبعة). فأمر الجمع أن يتكئوا على الأرض، وأخذ السبع
خبزات وشكر وكسر وأعطى تلاميذه ليقدموا، فقدموا إلى الجمع. وكان معهم قليل من صغار
السمك، فبارك وقال أن يقدموا هٰذه أيضا. فأكلوا وشبعوا، ثم رفعوا فضلات الكسر:
سبعة سلال. وكان الآكلون نحو أربعة آلاف. ثم صرفهم) (مرقس 8: 1-9).
أغلق الكتاب المقدس، وقال: لقد أجرى
المسيح معجزة إشباع خمسة آلاف نفس في الجليل، وأجرى معجزة إشباع أربعة آلاف نفس في
دائرة ديكابوليس، أي (المدن العشر)، وهي من البلاد الوثنية.
لقد اجتمع الناس هناك من حول المسيح في
البرية، وطال اجتماعهم به ثلاثة أيام حتى نفد الزاد، لأن قوما جاءوا من بعيد،
فحمله إشفاقه على تكرار إشباع الجمهور بمعجزة.
وإشفاق المسيح هذا يرافق كل فرد من البشر
من مهده إلى لحده. كان كلامه الحنون: (لست أريد أن أصرفهم إلى بيوتهم صائمين لئلا
يخوروا في الطريق) لا يسعنا إلا أن نستغرب تكرار التلاميذ اعتذارهم بالعجز في صيف
ذات السنة التي في ربيعها أشبع المسيح جمعا أكثر بشيء زهيد من الطعام، غير أن
المسيح بكتهم بعد قليل على نسيان المعجزتين معا وعدم استفادتهم منهما، فالشكوك
الحاضرة تولد نسيان المراحم الماضية.