استغل بولس هذا السؤال ليجعل من القصة
موعظة يكسب بها جمهور الحاضرين، فقال: في ذلك المساء الذي حصلت فيه تلك المعجزة،
تقدم التلاميذ الاثنا عشر إلى المسيح الذي كان يعظ الجموع الكثيرة، وقالوا له: (الموضع
خلاء والوقت مضى، اصرف الجموع لكي يمضوا إلى الضياع والقرى حوالينا، فيبيتوا
ويبتاعوا لهم طعاما، لأننا ههنا في موضع خلاء، وليس عندهم ما يأكلون)
لقد خاف التلاميذ أن يطالبهم الجمهور بحقوق
الضيافة، وحسبوا أن هؤلاء الرجال والنساء والأطفال مع مرضاهم يتضررون إذا دخل
الليل عليهم في هذا الخلاء.
وهنا وجه المسيح لفيلبس جوابه على هذا
الكلام، وكان في صيغة سؤال عن مكان يوجد فيه طعام، وكأنه يكلف فيلبس بتدبير ما
يلزم لهؤلاء الضيوف، سأله المسيح: (من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء؟)
لم يقل المسيح ذلك ليستفهم، بل ليمتحن
ويعلم، لأنه كان يعلم جيدا ما سيفعل، لكنه أراد أن ينبه تلاميذه إلى عجزهم وضعف
إيمانهم، لأن درس التواضع درس أولي يجب أن يتعلموه.
كان فيلبس متنبها إلى صعوبة الأمر من
وجوه عديدة، فعمل حسابا بأن الخبز وحده يكلف أكثر من مئتي دينار، فأين الدنانير؟
هل هي عند المسيح الذي ليس له ما يسند رأسه؟.. وفضلا عن ذلك: لو وجدوا الدنانير،
فأين الوقت للذهاب إلى قرى عديدة لجمع كمية كهذه، ولو من الخبز وحده والإتيان به،
والشمس أوشكت أن تغرب؟.. وفوق هذا كله: أين وسائل النقل لإحضار طعام يكفي الألوف؟
ويلاحظ أيضا أن حصة يسيرة من الخبز الحاف لا تقوم بضيافة يليق أن يقدمها شخص
كالمسيح لضيوفه.
بناء على هذا كله أجاب فيلبس المسيح: (لا
يكفيهم خبز بمئتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئا يسيرا)، وظن أن جوابه يقنع،
المسيح فيتبع نصيحة الرسل ويصرف الجمع، لكن عجبه اشتد لما أجابه المسيح: (لا حاجة
لهم أن يمضوا، أعطوهم أنتم ليأكلوا)
لقد قال المسيح ذلك، وهو يعلم أنه ليس
لديهم طعام، ليعلمهم أن الذين يقصدون إفادة الآخرين يحتاجون إليه، إذ ليس لديهم ما
يطعمون به نفوسا جائعة، وفي الوقت ذاته يشير إلى أن الله يختار الوسائط البشرية
ليجري مقاصده في العالم، لأنه لا يوزع خيراته الروحية والزمنية رأسا، أو بواسطة
الملائكة إلا نادرا - وذلك عندما لا توجد وسائط بشرية، وهذا القانون هو لخير الذين
يقدمون والذين يأخذون معا، إذ تنشأ بذلك ربط المحبة بين المحسن والمحسن إليه،
ويتنشط الذي يوزع في ممارسة إنكار الذات وخدمة الآخرين.
لكن التلاميذ اعترضوا على أمر المسيح
قائلين: (أنمضي ونبتاع خبزا بمئتي دينار