كانت الصيحة
التي غمرت العالم حينها هي.. العلم.. وليس إلا العلم.. ولا شيء غير العلم.
كان أكثر
المثقفين يصيح: (لنرفض الغيبيات، ولنكف عن إطلاق البخور، وترديد الخرافات)
وكان كثير من
العامة يردد: (من يعطينا الدبابات والطائرات ويأخذ منا الأديان والعبادات)
قام رجل من
الجمع، وقال: لكأنك تتحدث عن الكثير منا.. كلنا ذلك الرجل.. كلنا قد بهرنا العلم..
وكلنا قد بهرتنا منجزات هذه الحضارة حتى انصرفنا انصرافا كليا عن الله..
والشأن ليس في
أن تحدثنا عن هذا.. وإنما الشأن أن تحدثنا في كيفية خروجك منه.
قال آرثر:
صدقت.. فما يجديكم أن تعرفوا ذلك الماضي المر الذي عشته.. ولذلك سأمر بكم إلى
المسلك الذي أخرجني الله به من تلك الدوامة العنيفة التي كنت أتقلب فيها.
في يوم من
الأيام.. ولست أدري السبب.. شعرت بنور يقذف في قلبي يدعوني إلى البحث عن الله([9])..
[9] نشير بهذا النور إلى ما وضعه الله في فطرة الإنسان من المطالبة كل
الحين بالبحث عن الله واللجوء إليه، وهو ما يشير إليه قوله تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ (لأعراف:172)
وقد
ورد في الحديث ما يدل على هذا، فقد سئل النبي (ص) عن قوله تعالى:﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ﴾ (الأنعام: من الآية125) قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟
قال: (نور يُقْذَف فيه، فينشرح له وينفسح)، قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟
قال: (الإنابة إلى دار الخُلُود، والتَّجَافِي عن دار الغرور، والاستعداد للموت
قبل لقاء الموت) (تفسير عبد الرزاق (1/210) ورواه الطبري في تفسيره (12/99) من
طريق عبد الرزاق به)
وقد
أشار الغزالي إلى تأثير هذا النور في إخراجه من حالة الشك التي عرضت له، فقال في
(المنقذ من الضلال): ( لما خطر لي هذه الخواطر، وانقدحت في النفس حاولت لذلك
علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب
العلوم الأولية. فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل الداء، ودام
قريباً من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال،
حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت
الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل
وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر
المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى
الواسعة)