ونبات ولو كان دخول أحدهما في الآخر دفعياً لأضرّ ذلك بالأبدان وأسقمها كما يضرُّ الخروج من الحمّام إلى موضع بارد دفعة ، ولو كانت العروض متساوية في الحرِّ والبر والأهوية لضاق الأمر على العباد بخلاف ما إذا كانت متفاوتة فإنّه ينتقل منهم من أراد من موضع إلى موضع وجده موافقاً لمزاجه فهي كالخوان الموضوع بين يدي جماعة فيه ألوان مختلفة من الأطعمة والأشربة في الكمّيّة والكيفيّة يأكل منها كلّ واحد منهم ما أراد ووافق مزاجه ، وبالجملة آثار صنع الله تعالى وحسن تدبيره في اختلافهما ومصالحه ومنافعه أعظم من أن يحيط بها علم الإنسان أو يكتب في الدفاتر ويذكر باللّسان ولذلك ذكره الله تعالى في القرآن المجيد في مواضع عديدة وموارد كثيرة تنبيهاً لهم عن الغفلة وتذكراً لهم بالحكمة . ( و الفلك التي تجري في البحر ) الفلك بضمِّ الفاء وسكون اللّام واحد وجمع فإذا كان واحداً فالضمّة بمنزلة ضمّة قفل ، وإذا كان جمعاً فالضمة بمنزلة اُسد ، فالضمّتان متّفقتان لفظاً ومختلفتان معنى أمّا الجمع فكما في قوله تعالى ( حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) وأمّا الواحد فقد يأتي للمذكّر بمعنى المركب كما في قوله تعالى ( في الفلك المشحون ) وقد يأتي للمؤنث بمعنى السفينة كما في قوله تعالى ( والفلك التي تجري في البحر ) ويحتمل أن يكون فيه جمعاً ( بما ينفع الناس ) « ما » إمّا مصدريّة أي بنفعهم ، أو موصولة أي بالذي ينفعهم من المحمولات والمجلوبات وغوص اللآلي ، وضمير « ينفع » على الأوّل يعود إلى « الفلك » بمعنى المركب ففيه استخدام أو إلى الجري أو البحر ، وعلى الثاني إلى الموصول وفي موضع هذا المركوب المشكّل بالشكل المخصوص الدّاخل فيه الهواء وحمله للأمتعة الكثيرة وأصناف من الحيوان وجريه في الماء بسياق الرياح ، وعدم رسوبه فيه وتقوية القلوب على ركوبه ، وجعل البحر متوسطاً بين الكثيف واللّطيف القابل لجريانه من لطايف الصنع وحسن التدبير في مصالح الناس ومعاشهم ما لا يخفى على ذوي البصائر الثاقبة ، ومن جملتها أنّه لولا هذا المركوب لعطّلت التجارات التي تجلب من البلاد البعيدة مثل ما يجلب من الصين إلى العراق ومن العراق إلى الصِّين ، وبقيت الأمتعة في بلدانها في أيدي صاحبها لأنّ أجر حملها على ظهور الدَّوابِّ كان يجاوز أثمانها فلا يتعرض أحد لحملها على أنّ بعض المسافات كالبحر ممّا لا يمكن قطعه بالدوابّ ، فتفقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها فينقطع المعاش ويتضيّق طرقه على النّاس ، فلأجل هذه الحكمة جعل الفلك بحيث يحمل ما لا يحصى من الحمولة والأفراس والأفيال وهي تجري بعنايته في موج كالجبال وجعل الرِّيح سايقها ومحرّكها ولولا الرِّيح لركدت كما قال سبحانه ( ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الرِّيح فيظللن رواكد على ظهره إنّ في ذلك لآيات لكل صبّار شكور ) ومن جملتها أنّه لو جعل البحر لطيفاً محضاً مثل