عنكم متى كنتم محقِّين ؟ أحِينَ تقاتلون وخياركم يقتلون ؟ أم الآن حين أمسكتم [1] عن القتال ؟ فقالوا : دعنا منك يا أشتر قاتلناهم لله وندعهم لله ، قال : خدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب الجباه السُّود ، كنّا نظنّ أنّ صلاتكم زَهادةٌ في الدنيا وشوقاً إلى لقاء الله تعالى فلا أرى فراركم إلاّ إلى الدنيا من الموت [2] . يا أشباه النيب [3] الجلاّلة ما أنتم برائين بعدها عِزّاً أبداً ، فابعدُوا كما بعُدَ القومُ الظالمون . فسبّوه وسبَّهم وضربوا وجه دابّته ، فصاح بهم عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) [ فكَفُّوا ] [4] .
[1] في ( ج ) : إمساككم . [2] ليست " من الموت " في ( أ ) . [3] في ( أ ) : البقر . [4] انظر هذه المساجلات والمحاورات الكلامية بين مالك الأشتر ( رحمه الله ) وبين رسول عليّ ( عليه السلام ) من جهة ، وبين مالك الأشتر وبين القوم من جهة أُخرى ، وخاصّة القرّاء الّذين أصبحوا بعد ذلك خوارج في المصادر السابقة كالطبري : 4 / 35 وما بعدها باختلاف يسير في اللفظ ، وكذلك ابن أعثم في الفتوح : 2 / 183 ، وصفين : 490 وما بعدها ، والأخبار الطوال : 190 ، والإمامة والسياسة : 1 / 144 . وقفه مع رفع المصاحف : أطبق المؤرّخون وأهل السير على أنّ الجيش الإسلامي العلوي قد اقترب من الفتح ولاح لهم النصر و الظفر وتوجّه الخطر إلى معاوية وأصحابه ، وهذا ما بيّنه الإمام عليّ ( عليه السلام ) في خطبته الّتي ذكرها صاحب وقعة صفين : 476 وفيها : أيّها الناس ، قد بلغ بكم الأمر وبعدوِّكم ما قد رأيتم ، ولم يَبْقَ منهم إلاّ آخر نَفْس ، وإنَّ الأُمور إذا أقبلت اعتبرَ آخرها بأوّلها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتّى بلغْنا ، وأنا غاد عليهم بالغَداة أُحاكمهم إلى الله عزّوجلّ . ولم يستطع معاوية المقاومة إلاّ عن طريق الخدعة والمكر ، فاستعان بعمرو بن العاص - كما أشرنا سابقاً - فأمر معاوية أصحابه في جوف الليل أن يربطوا المصاحف على رؤوس الرماح ، وأصبح الصباح وإذا بأهل العراق يشاهدون خمسمائة مصحف على رؤوس الرماح ، وأهل الشام ينادون . . . ويتعطّفون أهل العراق ويطلبون منهم ترك الحرب وقالوا : هذا كتاب الله عزّ وجلّ بيننا وبينكم . وفي هذا قال النجاشي : فأصبح أهل الشام قد رفعوا القَنا * عليها كتاب الله خير قُرانِ ونادوا عليّاً : يا بن عمّ محمّد * أما تتقي أن يَهلك الثقلانِ انظر كتاب الخيل لأبي عبيدة : 162 وبعض أبيات هذه القصيدة ، ورواها ابن الشجري في حماسته : 33 ، وانظرها في وقعة صفين : 524 - 526 وأقبل عديّ بن حاتم فقال : يا أمير المؤمنين ، إن كان أهلُ الباطل لاَ يقومون بأهل الحقّ فإنّه لم يُصَب عصبةٌ مِنّا إلاّ وقد أُصيب مثلُهَا منهم ، وكان مقروح . . . وقال الأشتر : يا أمير المؤمنين ، إنّ معاوية لاَ خَلَف له من رجاله ، ولك بحمد الله الخَلف ، ولو كان له مثلُ رجالك لم يكن له مثلُ صبرِك ولا بَصَرك ، فاقرع الحديد بالحديد ، واستعن بالله الحميد . . . ثمّ قال عمرو بن الحمق : يا أمير المؤمنين ، إنّا والله ما أجبناك ولا نصرناك عصبيةً على الباطل ولا أجَبْنا إلاّ لله عزّ وجلّ ولا طلبنا إلاّ الحقّ . . . لكن الأشعث بن قيس قال : يا أمير المؤمنين ، إنّا لك اليوم على ما كُنّا عليه أمس ، وليس آخر أمرِنا كأوَّله ، وما مِنَ القوم أحدٌ أحْنَى على أهل العراق ولا أوْتَر لأهل الشام منِّي ، فأجِب القوم . . . فقال عليّ ( عليه السلام ) : إنّ هذا أمرٌ يُنتظر فيه . . . وكان الأشعث وهو المسوَّد من كندة فإنّه لم يرض بالسكوت بل هو من أعظم الناس قولا في الركون إلى الموادعة ، وأما كبشُ العراق وهو الأشتر فلم يكن يرى إلاّ الحرب ولكنه بعد كلّ الّذي ذكرناها من أنّه يريد فواق ناقة أو عدو الفرس فإنه سكَت على مَضَض ، وأمّا سعيد بن قيس ، فتارةً هكذا وتارة هكذا . أمّا عليّ ( عليه السلام ) فقال : إنّه لم يزل أمري معكم على ما أُحبُّ إلى أن أخذَتْ منكم الحرب ، وقد والله أخذَتْ منكم وتَرَكَتْ ، وأخذَتْ من عدوّكم فلم تترك ، وإنّها فيهم أنْكَى وأنْهَك . ألا إني كنتُ بالأمسِ أمير المؤمنين فأصبحتُ اليوم مأموراً ، وكنتُ ناهياً فأصبحت منهيّاً ، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون . . . ثمّ قعد ، وتكلّم رؤساء القبائل . . . من ربيعة كردوس بن هانئ البكري فقال : أيُّها الناس ، إنّا والله ما تولّينا معاوية منذ تبرَّأنا منه ، ولا تبرَّأنا من عليٍّ منذُ تولّيناه . وإنّ قَتْلانا لَشُهداء ، وإنّ أحياءَنا لأبرار ، وإنّ عليّاً لَعلَى بيِّنة من ربه ، ما أحدث إلاّ الإنصاف ، وكلّ محقٍّ مُنْصِف ، فمن سلَّم له نجا ، ومَنْ خالَفَه هلك . . . ثمّ قام شقيق بن ثور البكريّ فقال : أيّها الناس ، إنّا دَعونا أهل الشام إلى كتاب الله فردّوه علينا فقاتَلْناهم عليه - إلى ان قال : - وقد أكلتنا هذه الحرب ولا نرى البقاء إلاّ في الموادَعة . . . ثمّ قام حريث بن جابر البكري فقال : أيّها الناس ، إنّ عليّاً لو كان خَلْفاً من هذا الأمر لكان المفْزَع إليه ، فكيف وهو قائدُه وسائقُه ، وإنّه والله ما قَبِل من القوم اليوم إلاّ ما دعاهُم إليه أمسِ ، ولو ردّه عليهم كنتم له أعْنَت ، ولا يُلحد في هذا الأمر إلاّ راجعٌ على عقبيه أو مستدرَجٌ بغرور ، فما بيننا وبين من طَغَى علينا إلاّ السيف . . . ثمّ قام خالد بن المعمّر فقال : يا أمير المؤمنين ، إنَّا والله ما اخترنا هذا المقام أن يكون أحدٌ هو أولى به منّا ، غير أنّا جعلناهُ ذُخْراً . . . فإنّا لاَ نرى البقاء إلاّ فيما دعاكَ إليه القوم . . . ثمّ إنّ الحُصين الربعي وهو أصغر القوم سِنّاً قام فقال : أيّها الناس ، إنّما بُني هذا الدين على التسليم فلا تُوفِّروه بالقياس ولا تهدموه بالشفقة - إلى ان قال : - وإنّ لنا داعياً قد حمِدنا وِردَه وصَدرَه ، وهو المصدّق على ما قال : المأمون على ما فعل . فإن قال : لاَ قلنا : لاَ ، وإن قال : نعم ، قلنا : نعم . . . وبلغ معاوية ذلك فبعث إلى مصقلة بن هبيرة فقال : يا مصقلة ، ما لقيتُ من أحد ما لقيتُ من ربيعة . . . فبعث مصقلةُ إلى الربعيِّين شعراً . . . وقال النجاشي شعراً . . . وقال خالد بن المعمّر شعراً . . . وقال الصلتَان شعراً . . . وقال حريث شعراً . . . وقال رفاعة بن شداد كلاماً وشعراً . . . والسؤال الّذي يطرح نفسه هو : مَن هو المظلوم في وقعة صفين وما سبقها وما بعدها ؟ والجواب يوضحه قول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كما ورد في عيون أخبار الرضا : 1 / 236 الباب 27 ح 63 عن الحسين بن عليّ ( عليه السلام ) قال : قال : رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عليّ ، أنت المظلومُ مِن بعدي ، فويلٌ لِمَن ظلمك واعتدى عليك ، وطُوبى لِمَنْ تبعك ولم يختر عليك . يا عليّ ، أنت المقاتل بعدي ، فويلٌ لِمَنْ قاتلك ، وطُوبى لمن قاتل معك . لم يحدّثنا التاريخ عن مظلوم غُصب حقّه كالإمام عليّ ( عليه السلام ) وهذا ما ورد في تفسير الدرّ المنثور للسيوطي : 2 / 298 . نعم ، لقد صبر ( عليه السلام ) وتحمّل كلّ المظالم والمشاقّ لأجل بقاء الإسلام والقرآن والحفاظ على وحدة الأُمّة من التشتّت والتمزّق . وهاهو يقول : ما زلت مظلوماً منذ قبض الله تعالى نبيه إلى يوم الناس . وقال ( عليه السلام ) أيضاً : لقد ظُلمتُ عدد المَدر والوَبر . ولسنا بصدد بيان كلّ الأحاديث الواردة بهذا الخصوص بل نحيل القارئ الكريم إلى المصادر التالية : سفينة البحار : 2 / 108 مادة " ظلم " ، الشافي في الإمامة للسيّد المرتضى : 3 / 223 ، و : 4 / 114 ، التاريخ الكبير : 1 / ق 2 / 174 ط حيدر آباد ، الخرايج والجرائح للراوندي : 1 / 180 نشر مؤسّسة الإمام المهدي ( عليه السلام ) ، المستدرك : 3 / 142 ، البحار : 2 / 21 و 60 ، و : 28 / 45 و 76 ، و : 40 / 199 ، و : 100 / 265 ، شرح النهج لابن أبي الحديد : 13 / 300 ، وشرح النهج للفيض : 83 خطبة 26 ، وشرح النهج للعلاّمة الخوئي : 1 / 458 و 569 ، و : 3 / 373 ، العقد الفريد : 4 / 259 ، كتاب سُليم بن قيس : 25 و 96 و 97 ، الإمامة والسياسة : 1 / 13 ، تفسير العيّاشي : 2 / 307 ، مرآة العقول : 5 / 321 ، الكامل في التاريخ : 2 / 219 ، تاريخ الطبري : 3 / 294 . أمّا بخصوص معركة صفين فانظر شرح النهج لابن أبي الحديد : 2 / 206 و 209 و 210 وما بعدها ولذا قال الشارح المعتزلي : عن أبي جعفر : ثمّ قام الطفيل بن أدهم حيال عليّ ( عليه السلام ) وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة وقام ورقاء بن المعمّر حيال الميسرة ، ثمّ نادوا : يا معشر العرب : الله الله في النساء والبنات والأبناء من الروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فنيتم . . . فاختلف أصحاب عليّ ( عليه السلام ) في الرأي فطائفة تقول القتال وأُخرى تقول المحاكمة إلى الكتاب . . . لكن الأشتر كان يقول : اصبروا فقد حَمي الوطيس . . . وقد خالف الأشعث في جيش عليّ ( عليه السلام ) حين الظفر والفتح . . . واستغلّ معاوية الفرصة وقال : اربطوا المصاحف على أطراف القَنا . . . والإمام عليّ ( عليه السلام ) يُطلع جيشه على حيلة معاوية وعمرو لكن أصحاب الجباه السود يتقدّمهم مسعر بن فدكي . . . ومعهم زهاء عشرين ألفاً مُقنّعين بالحديد . . . وقالوا : ابعث إلى الأشتر ليأتينك . . . وقد أشرف الأشتر على عسكر معاوية ليدخله . . . فأرسل إليه الإمام عليّ ( عليه السلام ) أن يرجع . ثمّ انظر إلى خطبته ( عليه السلام ) الّتي يبيّن فيها مظلوميته وتثاقل أصحابه كما وردت في شرح النهج للفيض : 85 الخطبة 27 ، و : 107 الخطبة 35 ، و : 275 الخطبة 96 ، وانظر وقعة صفين : 480 - 494 ، تاريخ الطبري : 6 / 27 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : 1 / 186 - 188 ، الإصابة : 8849 فيها تراجم بعض المعترضين ، والمعارف : 41 - 42 ، وخزانة الأدب : 3 / 462 وفيها بعض الأشعار ، وكذلك الأصمعيات : 43 - 45 ، والفتوح لابن أعثم : 2 / 186 - 188 وما بعدها ، الكامل لابن الأثير : 3 / 316 ، وتاريخ الطبري : 4 / 35 وما بعدها ط أُخرى ، الأخبار الطوال : 189 .