الليلة تلاطم السيول والأمواج ويتصادمون تصادم الفحول عند الهياج . ولمّا أسفر صبح هذه الليلة عن ضياء وحسر الليل عن ظلماته كانت عدّة القتلى من الفريقين ستّة وثلاثون ألفاً [1] ، وكانت هذه الليلة ليلة الجمعة . وأصبح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والمعركة كلّها خلف ظهره وهو في قلب معسكره والأشتر [2] ( رض ) في الميمنة وابن عباس ( رض ) في الميسرة [3] والناس يقتتلون [4] من كلّ جانب ولوائح النصر لائحة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) والأشتر يزحف في الميمنة يقاتل بها ويقول لأصحابه : ازحفوا قبل هذا الرمح ، ويزحف بهم زحفةً ثانية ويقول : قيد هذا القوس ، وكلّما فعلوا [5] ، يزحف نحو أهل الشام ويقول مثل ذلك [6] .
[1] أكثر المصادر التاريخية ذكرت أنّ عدد قتلى ليلة الهرير ويومها 36 ألف قتيل كما في المعارف : 135 ، والفتوح لابن أعثم : 2 / 178 ، والطبري : 4 / 27 ، ومروج الذهب : 2 / 391 ، وأعيان الشيعة : 1 / 498 ، وكشف اليقين : 158 لكن بعض المصادر ذكرت أنّ عدد القتلى في تلك الليلة ويومها 70 ألف قتيل كما جاء في كتاب سُليم بن قيس : 176 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : 2 / 208 ، ووقعة صفين : 475 ، ولكن الأصحّ هو الأوّل . [2] تقدّمت ترجمته بالإضافة إلى أنّ في وقعة صفين : 475 ذكر أنّ الأشتر في ميمنة الناس ، وابن عباس في الميسرة ، وعليٌّ في القلب ، والناس يقتتلون . [3] تقدّمت ترجمته وانظر المصدر السابق . [4] في ( أ ) : يقبلون . [5] في ( أ ) : اقتتلوا . [6] انظر وقعة صفين : 475 لكن باختلاف يسير وفيه : قال : ازحَفُوا قيدَ رُمْحي هذا . وإذا فعلوا قال : ازحفوا قاب هذا القوس ، فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك . وفي الفتوح لابن أعثم : 2 / 173 أضاف قائلا : فتحيرت أهل الشام من فعالهم - الأشتر ومذحج - والأشتر يومئذ على فرس له أدهم ذَنوب في يده صفيحة له يمانية ، إذا طأطأها خلت فيها لهيباً ، وإذا رفعها يغشى البصر من شعاعها ، فهو يضرب بها قدماً قدماً ، فلا يصمد لكتيبة إلاّ كشفها ، وهو يقول : أهلي فداكم قاتلوا عن دينكم * فالجبن عن أعدائكم يشينكم قال : ثمّ حمل فطاعن حتّى كسر رمحه على قربوس سرجه ، ووقف وهو يقول : الغمرات ثمّ تنجلينا * نحن بنو الحرب بها غذّينا قال : فقال رجل من أصحاب عليّ ( عليه السلام ) : لله درّ هذا الرجل لو كانت له نية ، ولكن أظنّ أنه إنّما يقاتل هذا القتال رياءً وسمعة ، ولا أظنّه يريد بفعاله هذا ما عند الله . قال : فبلغ كلامه الأشتر فغضب من ذلك وقال شعراً : أيّها الجاهل المسئ بي الظنّ * ليس مثلي يجوز فيه الظنونُ إلى آخرها ; قال : فندم اللخمي على ما قال في الأشتر وقال شعراً : أصابت ظنوني في رجال كثيرة * وأخطأتُ في ظنّي بأشتر مالك إلى آخرها . انظر الفتوح : 2 / 174 . إلى أن قال : وبكى الأشتر فقال عليّ ( عليه السلام ) : ما يبكيك ؟ لاَ أبكى الله عيناك ، فقال : أبكي يا أمير المؤمنين لأني أرى الناس يُقتلون بين يديك وأنا لاَ أُرزق الشهادة فأفوز بها ، فقال عليّ ( عليه السلام ) : أبشر بالخير يا مالك ، ثمّ تمثّل عليّ ( عليه السلام ) أيّ يوميك من الموت تفر * يوم لاَ يقدر أو يومَ قدر وانظر هذه المساجلة في وقعة صفين : 479 - 480 مع اختلاف يسير في اللفظ ، وانظر ابن أبي الحديد في شرح النهج : 1 / 185 حيث علّق على هذه المساجلة بقوله : قلت : لله أُم قامت عن الأشتر . لو أنّ إنساناً يقسم أنّ الله تعالى ما خلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلاّ أستاذه ( عليه السلام ) لما خشيت عليه الإثم . ولله درّ القائل وقد سئل عن الأشتر : ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام ، وهزم موته أهل العراق . وبحقّ ما قال فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : كان الأشتر كما كنتُ لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .