ثمّ إنّ علياً ( عليه السلام ) خرج بعسكره إلى النُخيلة [1] واستنفر [2] الناس للمسير إلى معاوية وقتال أهل الشام ، فبلغ ذلك معاوية فاستشار عمرو بن العاص [3] فقال له : أمّا إذا سار إليك عليّ بنفسه فأخرج إليه بنفسك ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك [4] . فخرج معاوية وخرج معه عمرو بن العاص فكتبا الكتايب ، وعبّيا الجيوش ، وعقد معاوية لواءً لعمرو بن العاص ، ولواءً لابنيه محمّد وعبد الله ولواءً لغلامه وردان ، وفي ذلك يقول [5] :
[1] انظر الفتوح لابن أعثم : 1 / 571 ، والإمامة والسياسة لابن قتيبة : 120 - 125 ، أعيان الشيعة : 1 / 475 - 479 ، تاريخ الطبري : 3 / 563 . [2] في ( أ ) : واستقرّ . [3] أبو عبد الله أو أبو محمّد عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم القرشي السهمي وأُمه النابغة بنت حرملة ، سبيت من بنى جيلان بن عتيك ، وبيعت بعكاظ واشتراها الفاكه بن المغيرة ، ثمّ انتقلت إلى عبد الله بن جدعان ومنه إلى العاص بن وائل ، فولدت له عمراً . أرسلته قريش إلى النجاشي ليغيّر رأيه على جعفر بن أبي طالب ومَن معه من المهاجرين إلى الحبشة ويسترجعهم إلى مكة فردّه النجاشي . أسلم سنة ثمان وقبل الفتح بستّة أشهر . وافتتح مصر لعمر ، ووليها إلى السنة الرابعة من خلافة عثمان ، فعزله عنها ، فأخذ يؤلّب عليه حتّى قُتل . ثمّ اشترك مع معاوية بصفين مطالباً بثأر عثمان وأشار برفع المصاحف للصلح فانخدع جيش عليّ وقبلوا الصلح وعيّنوا أبا موسى من قِبلهم ، وعيّن معاوية عمراً فغدر بأبي موسى وخلعا علياً ونصب عمرو معاوية وأخذ مصر طعمة من معاوية ووليها بعد قتل محمّد بن أبي بكر حتّى توفي سنة ( 43 ه ) أو بعدها ودُفن هناك . راجع ترجمته في جمهرة أنساب العرب لابن حزم : 154 ، وطبقات ابن سعد : 7 / ق 2 / 188 ، المعارف لابن قتيبة : 285 ، أُسد الغابة : 4 / 420 ، الكامل في التاريخ : 2 / 232 ، البداية والنهاية : 4 / 275 ، شرح النهج لابن أبي الحديد : 1 / 20 و 8 / 53 ، مقاتل الطالبيين : 44 ، الإرشاد : 1 / 18 - 22 . [4] انظر تاريخ الطبري : 3 / 562 مع اختلاف يسير في اللفظ . [5] انظر تاريخ الطبري : 3 / 562 وقد ذكر ابن أعثم في الفتوح : 1 / 521 كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى عمرو بن العاص ، وعمرو يومئذ بفلسطين . وكذلك ذكر المحاورة الّتي جرت بين عمرو بن العاص وابنيه عبد الله ومحمّد . وقول عبد الله : أمّا أنا فأقول : إنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) خرج من الدنيا وهو عنك راض وكذلك الخليفتان من بعده : أبو بكر وعمر ، وأمّا عثمان فإنّه قُتل وأنت عنه غائب ، وقد وسّع الله عليك فاقعد في بيتك ، فإنّك لاَ تطمع أن تكون خليفة ، وليس ينبغي لك أن تكون حاشية معاوية على دنيا قليلة زائلة عن أهلها ، والسلام . وقال ابنه محمّد : أمّا أنا فأقول : إنّك شيخ قريش وصاحب أمرها ، وإنّ اضطراب هذا الأمر وأنت عنه غائب لصغر أمرك ويذهب قدرك ، فالحق بجماعة من أهل الشام فكن يداً من أيديها ، واطلب بدم عثمان بن عفان ، فلست أقلّ من معاوية . فأطرق عمرو ساعة ثمّ قال : أمّا أنت يا عبد الله ، فأشرت عليَّ بما هو خيرٌ لي في دنياي وديني ، وأمّا أنت يا محمّد ، فأشرت عليّ بما هو خيرٌ لي في دنياي ، وسأنظر في ذلك . فلمّا جنّ عليه الليل رفع صوته وجعل يقول شعراً : تطاول ليلي للهموم الطوارق * وخوف الّتي تبدي وجوه العوائق إلى آخر الأبيات الّتي ذكرها اليعقوبي في تاريخه : 2 / 185 . ثمّ أدنى عمرو غلاماً يقال له وردان ، فقال له : ارحل يا وردان ، فعبّى له الأثقال وترحّل ، فقال له عمرو : حطّ يا وردان ، فحطّ ، ثمّ قال : ارحل يا وردان ، فرحل ، فلم يزل عمرو يقول : ارحل وحطّ ، فقال له وردان : أبا عبد الله ، ما شأنك ؟ أخولطت ؟ فقال عمرو : لاَ ، قال : فما قصتك ؟ مرّة تقول : ارحل يا وردان ، ومرّة تقول : حطّ يا وردان ! فقال عمرو : لاَ أدري ، قال وردان : لكني أدري ، والله أنت رجل قد اعترضت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلت : إنّ علياً معه آخرة بلا دنيا ، وفي الآخرة عوض من الدنيا ، ومعاوية معه دنيا بلا آخرة وليس في الدنيا عوض من الآخرة . . . فقال عمرو : لله أبوك يا وردان ، ما أخطأت شيئاً . . . ولكن هات ما عندك من الرأي . فقال وردان : عندي والله من الرأي أن تجلس في بيتك . . . فقال عمرو : يا وردان ، الآن أقعد في بيتي ، وقد سمعت العرب بتحريكي إلى معاوية ، ارحل يا وردان ، فرحل وردان وأنشأ عمرو يقول شعراً : يا قاتل الله ورداناً وأربته * أبدى لعمرك ما في الصدر وردان إلى آخر الأبيات كما أوردها اليعقوبي في تاريخه : 2 / 185 ، وابن أعثم في الفتوح : 1 / 522 هامش 1 ، وانظر هذه المساجلات في وقعة صفين : 34 - 35 - 38 و 40 . ونقل ابن أبي الحديد في شرحه على النهج : 1 / 137 تعليق أبي القاسم البلخي على قول عمرو لوردان " دعنا عنك " كناية عن الإلحاد بل تصريح به . أي دع هذا الكلام الّذي لا أصل له فإنّ اعتقاد الآخرة وأنها لاَ تباع بعرض الدنيا من الخرافات . وقال ( رحمه الله ) : وما زال عمرو بن العاص ملحداً ما تردّد قطّ في الإلحاد والزندقة ، وكان معاوية مثله . ويكفي من تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي ، وأنّ معاوية عضّ أُذن عمرو . أين هذا من أخلاق عليّ ( عليه السلام ) وشدّته في ذات الله ، وهما مع ذلك يعيبانه بالدعابة . ونقل ابن قتيبة في الإمامة والسياسة هذه المساجلات بين عمرو وابنيه وغلامه وكذلك مساومة عمرو بن العاص معاوية على مصر في : 1 / 112 وما بعدها . وقد علّق أبو عثمان الجاحظ على المساومة بقوله : كانت مصر في نفس عمرو بن العاص لأنّه هو الّذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمر ، فكان لعظمها في نفسه وجلالتها في صدره وما قد عرفه من أموالها وسعة الدنيا لاَ يستعظم أن يجعلها ثمناً من دينه . نقل هذا الكلام ابن أبي الحديد في شرح النهج : 1 / 138 ، وانظر مروج الذهب : 2 / 390 ، الكامل : 3 / 179 ، الطبري : 6 / 56 .